الأمر لا يخلو من المفارقة، لكنها مفارقة تعلي فناً لتنزل بآخر! فمن تابع دراما رمضان على الفضائيات العراقية حصراً لا بدّ أن يكون قد استوقفه أكثر من أمر... وكأن هذه الفضائيات، دون سواها، دخلت في «سباق ماراثوني» لحيازة العدد الأكبر من عملية الإنتاج التلفزيوني الذي زجّ به في شهر واحد، ما قاد الى بروز ظاهرتين ليس لنا، كمشاهدين، إلاّ أن نحسبهما على هذه القنوات، وليس لها. الأولى، هي أن المشاهد الذي قدمت له هذه الأعمال مرة واحدة لم يستطع متابعة معظمها، وذلك لكثرتها عدداً ولتزامن عرضها على هذه الشاشات التي قد يكون ما لنا منها أكثر مما لأية دولة في العالم! والثانية هي ما تمثل في تكرار الوجوه، وإن اختلفت الأدوار، في معظم هذه العروض، وقد تجاوزت هذه الظاهرة «نجوم الدراما» الى من يصنفون فنياً بعدهم بدرجات. وزاد من شدة الأمر (أو سلبيته) أن حالة تكرار الوجوه هذه في معظم العروض المقدمة لم تكن محصورة في إنتاج قناة واحدة، ليحسب لها من باب «احتكار الممثل»، وإنما توزع على أكثر من قناة. على صعيد آخر، جاءت هذه الكثافة غير المسبوقة في الدراما الرمضانية العراقية (وهي التي جمعت بين التاريخ المعاصر، والواقع الاجتماعي الحاضر، والنقد لأطراف من الواقع السياسي الذي نحن فيه اليوم)- بما اجتذبت في هذا كله من ممثلين ومخرجين- بتأثير سلبي على المسرح في شكل خاص، إذ تراجعت عروضه في المدة الأخيرة الى حد الانكماش والتلاشي. إذ لم يسترع الاهتمام في الأشهر التي سبقت رمضان شيء من عروض هذا المسرح، كما لا نحسب أن الأيام المقبلة ستغري المخرجين والممثلين المرموقين، والمنتجين أيضاً، للإقدام على إنتاج أعمال مسرحية مهما كانت قيمتها الفنية عالية. ذلك أن فنان المسرح وجد نفسه، كما يبدو، على نحو أكثر حضوراً في الدراما التلفزيونية، بما يعيد صورته الى حضورها بعدما تراجع ما كان له من حضور بتراجع المسرح الذي يقف وراءه أكثر من عامل وسبب. أولها إن هذا الفنان لم يعد يجد في المسرح، في الوضع العراقي الراهن على الأقل، ما يمكن أن يحسب له وللفن، وقد جرّب الاشتراك في أعمال لم تجد - وهذا هو السبب الثاني - المسرح المناسب الذي يستوعب حركة الممثلين ويوفر للمخرج والعمل فضاءً كافياً للإبداع... فضلاً عن سبب ثالث ومهم هو تراجع اهتمام الجمهور وضعف إقباله على عروض المسرح هذه، وهو ما سيحمل انعكاساته السلبية على كل من المخرج والمنتج والممثل الذين قد يمضون أسابيع في التدريب على عمل، بصرف النظر عن قيمته الفنية، ثم يجدون أنفسهم لحظة العرض أمام «جمهور افتراضي» غالبيته من العاملين في المسرح أو المؤسسة التي ترعاه، مما لا يضمن الاستمرار، إن لم يقد الى الإحباط. ومن هنا فإن السؤال المقلق الذي يثيره القائمون على المسرح والعاملون فيه، ومن يشددون على أهميته، هو: ماذا ينتظر «مدرسة الشعب» هذه، إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه، أو تفاقمت، سوى أن تغلق المسارح أبوابها؟ وما ينذر بهذا اليوم هو أن عدد المسارح في بغداد قد تقلص فلم يعد منها ما هو صالح لتقديم العروض، واستقبال الجمهور، إن حضر، سوى مسرح واحد (هو المسرح الوطني) لهم عليه - على ضخامته ملاحظاتهم الفنية التي غالباً ما يجدونها ليست في مصلحة العرض. أما المسارح الأخرى فأما أن تكون قد شملتها عمليات الحرق والنهب والتخريب التي جرت في أعقاب دخول قوات الاحتلال الأميركي العاصمة بغداد واشاعتها الممتلكات الثقافية ومؤسساتها لمثل ذلك،(كما جرى لأهمها: مسرح الرشيد الذي لم تجر حتى الآن أية خطوة جادة لإعادته)... أو أقدمت على إغلاق أبوابها، كما هو حال المسارح الصغيرة، الأمر الذي يجد فيه فنان المسرح المبرر الكافي لنفسه وهو يهاجر نحو الدراما التلفزيونية، وقد وجد فيها باباً مفتوحاً على حاجتيه: الفنية في ما يتصل بالاستمرار وعدم التوقف، والمادية بما تأتي به مثل هذه الأعمال من مورد يضمن له العيش. ويصف بعض المعنيين بشؤون الحركة الفنية الواقع على الشكل الآتي: قنوات تلفزيونية لها من الإمكانات المادية ما تقيم به إنتاجاً درامياً بهذه الكثافة العددية، فنانون غالبيتهم خارج البلد بسبب ظروفه الأمنية السيئة والواقع المتردي على مستويات الحياة كافة، بما فيها الفنية والأدبية، ومسرح لا يجد متطلباته الأساسية من مسارح وصالات عروض الى الجمهور الذي يديم العرض ويضمن استمراره... كل هذا إضافة الى استجابة الفنانين الإيجابية للأعمال الدرامية التي لم تترك عروضها السخية لكثير من المشتغلين في المسرح فرصة التفكير بسواها من الأعمال التي كانت، الى وقت قريب، تمثل «فرصاً جيدة».. من هنا، فإن المستقبل يقول: إن الدراما تنتعش وتتقدم، والمسرح يتراجع الى حد عدم القدرة على ضمان الاستمرار في شكل حي. فهل سنفقد هذا الفن في واقعنا الثقافي العراقي بعدما فقدنا السينما؟