الرئيس محمود أحمدي نجاد مر أمس بدمشق. وكان المبعوث الأميركي جورج ميتشل سبقه إليها بيومين. الحدث نفسه يتكرر: عندما بدأ الإعداد للمفاوضات غير المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين أوائل السنة توافد المبعوثون الأميركيون والأوروبيون والإيرانيون إلى العاصمة السورية. وثارت عاصفة «الصواريخ» إلى «حزب الله» وبدأ التلويح بالحرب الشاملة. وطالبت هيلاري كلينتون دمشق بالابتعاد عن طهران. ولم يتردد إثرها الرئيس نجاد من التهديد بقطع أيدي وأرجل من يعتدي على الحليفة الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية. الحدث نفسه يتكرر وسيتكرر ما دام الصراع على سورية سيستمر ما لم يطرأ تطور دراماتيكي في مواقف الأطراف المعنية بموقعها «عقدة» في وجه التسويات أو «بوابة» إليها بشروط. فهي لا تخفي سياستها، من أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد: لا شيء مجانياً. كل مطلب منها يجب أن يقابله مطلب لها. لذلك شكلت شبه ممر إلزامي طوال حرب الخليج الأولى، للإيرانيين وأيضاً لكل العرب الذين وقفوا في الصف المقابل، صف صدام حسين. وهكذا كانت في حرب الخليج الثانية، عندما احتاج إليها التحالف الدولي لتحرير الكويت. وستزداد الحاجة إليها بعدما بدأت حرارة الحرب الباردة في المنطقة بالارتفاع على وقع المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، والسعي الأميركي إلى تحريك المسارين السوري واللبناني. وهو ما ترى إليه إيران سعياً إلى رفع يدها عن الملف الفلسطيني، ومحاولة حرمانها من ورقة قوة في الصراع على ملفها النووي وما يرتبط به من ملفات تتعلق بدورها السياسي والعسكري والنفطي من الخليج إلى المتوسط. لذلك ما أن غادر ميتشل دمشق مطالباً ب «ضبط» حركة «حماس» والإعداد لتحريك المسار السوري، حتى حط فيها الرئيس نجاد ليطمئن إلى صلابة التحالف الاستراتيجي، الممتد منذ اندلاع حرب الخليج الأولى إلى اليوم. ليست المرة الأولى التي يطلب فيها الأميركيون من دمشق «ضبط» الحركات الفلسطينية المعارضة للسلطة. سبق لكولن باول، وزير الخارجية الأميركي السابق، في أوج «انتصار» القوات الأميركية في العراق الذي أعلنه الرئيس جورج بوش، أن قدم إلى الرئيس بشار الأسد جملة من المطالب. وبينها «ضبط» حركة «حماس» والفصائل المقيمة قياداتها في العاصمة السورية. وفي الحديث مع الأسد ذكره بما يصفه به بعض العرب بأنه «المعتدل الوحيد» في إدارة بوش، وعليه من واجب العرب أن يدعموه، مع ما يعني ذلك من دعم لتيار الاعتدال في وجه المحافظين المتشددين. ولم يخذله الأسد في حينه، وما أن غادر إلى واشنطن حتى أعلنت دمشق «إقفال مكاتب» المنظمات الفلسطينية. وهو إقفال لمكاتب إعلامية كما فسر السوريون في حينه، إذا لا قوات ميدانية لهذه الفصائل التي تنشط عناصرها في الأراضي المحتلة، من غزة إلى الضفة... ولم يتغير شيء. فلا باول رجحت كفته وتقدمت مسيرة السلام، ولا سورية أخلت الساحة من «حماس» وبقية الفصائل. كذلك لن تكون المرة الأولى إذا آلت المفاوضات الحالية إلى ما آلت إليه الجولات السابقة، ما دام أن نتانياهو وشركاءه في الحكومة يصرون على الاعتراف بيهودية إسرائيل، ويرفضون تمديد تجميد الاستيطان وتقاسم القدس، والاعتراف بحدود الدولة الفلسطينية الموعودة (1967)، والبحث في حقوق اللاجئين الفلسطينيين. بل هم يريدون الاحتفاظ بوادي الأردن! علماً أن كل قضايا الحل النهائي أشبعت درساً في كمب ديفيد عام 2000 ثم في طابا، ولا تحتاج إلا لقرار إسرائيلي، إذا كانت الولاياتالمتحدة جادة فعلاً هذه المرة في فرض تسوية توفر لمصالحها الاستراتيجية وقواتها المنتشرة في المنطقة أجواء أقل عدائية، وترفع يدي إيران عن الملف الفلسطيني وتنزع منها ورقة أساسية، ما يسهل التفاوض معها... أو يسهل ضربها إذا فشلت الديبلوماسية والعقوبات. ولا يحتاج المراقب إلى عناء كبير ليلاحظ التسخين المتصاعد في أكثر من «ساحة» بالتزامن مع إعلان الأميركيين عزمهم على تحقيق اختراق في قضية الشرق الأوسط، سواء أفلحوا أم أخفقوا. أو كان هدفهم تحريك آني للتسوية تعزيزاً لمواقع الرئيس باراك أوباما وحزبه على أبواب الانتخابات النصفية للكونغرس. أو كان هدفهم الضغط في ملفات أخرى على إيران خصوصاً في العراق وأفغانستان. ولم تتوان الجمهورية الإسلامية عن الرد السريع في أكثر من «ساحة». وأولها ساحتها الداخلية حيث دخلت المواجهة مع الإصلاحيين معركة «التصفية» النهائية بالهجوم على مكاتب حسين الموسوي والاستعداد لجر قادة «الخضر» إلى المحكمة. وهي خطوات ترى طهران أن لا بد منها للانصراف إلى مواجهة «المشروع الأميركي. والتسخين المتجول تتفاوت حرارته من البحرين والكويت إلى اليمن فالسودان. وإذا كان العراق يراوح مكانه بعد ستة أشهر على الانتخابات النيابية، لا تحتمل «ساحته» مزيداً من التسخين والضغوط خوفاً من تصاعد نشاط «القاعدة» وجر البلاد إلى ما لا تبقى معه مصلحة لأصحاب المصالح المتنافرة... فإن «الساحة» الفلسطينية تظل مفتوحة لشتى الاحتمالات. وإذا كان بعض العمليات التي قامت بها «كتائب القسام» لم يثنِ المتفاوضين عن التفاوض، فإن الخوف من عملية كبرى لإحدى الفصائل المعترضة على السلطة الفلسطينية، كما كان يحدث في كل جولات المفاوضات، قد تقلب الطاولة على رؤوس الجميع. وهو ما «يعفي» السلطة من مزيد من التنازلات وإن على حساب مزيد من إضعافها. مثلما «يعفي» بنيامين نتانياهو من الضغوط الأميركية التي تلح في طلب تمديد تجميد الاستيطان في الضفة الغربية بمواجهة أكثرية شركائه الرافضين. وتظل «الساحة» اللبنانية هذه الأيام الأكثر هشاشة والأكثر سخونة. صحيح أن المظلة الإقليمية، أو بالأحرى التفاهم السعودي - السوري، وفر غطاء لبقاء الحكومة. لكن ما يجري على الأرض من تقويض لمؤسسات الدولة أخطر بكثير من فرط الحكومة. إن شلّ عمل هذه المؤسسات، من جيش وقوى أمن وقضاء، لا يبقي من مقومات الدولة شيئاً. هذا يعني ببساطة الاحتكام إلى الشارع، حيث لا يمكن أن يظفر أحد، لأن من «حسنات» هذه التركيبة المتخلفة للبلد أنها لا تتيح لأي طائفة أو مذهب، مهما فاض ماله ورجاله وسلاحه أو استقواؤه بالخارج، أن يستأثر وحيداً بالحكم على سائر العباد. فضلاً عن ان التوازنات الإقليمية لا تسمح بانقلاب من نوع انقلاب 7 ايار 2008. وإذا تهيأ لهذه الفوضى أن تتصاعد في لبنان فبأي مسار من المفاوضات سيلتحق البلد، ما دامت حكومته مشلولة ولا قدرة لها على اتخاذ أي قرار؟ وكيف للمحكمة الدولية أن تضمن حسن سير عملها في لبنان، في ظل غياب القضاء والمؤسسات المسؤولة عن حمايته وحماية العدالة والمجتمع؟ إذا كان الانقلاب على الوضع الحكومي حال ويحول دونه التفاهم السوري - السعودي، وإذا كان مصير المحكمة رهناً بمجلس الأمن وحده، فإن تفريغ الدولة اللبنانية يقضي على مفاعيل التفاهم والمحكمة معاً. ولا يفيد في هذا المجال أن يتقاذف اللبنانيون المسؤولية بدل السعي إلى تسوية سياسية تضع مصلحة البلاد فوق أي اعتبار. وتجنبهم نار التطورات الاقليمية. وإذا كان اللواء جميل السيد ومن ينتصرون له يجازفون بتقويض السلطة القضائية، فإن الساكتين عن فتح ملف «شهود الزور» يساهمون هم أيضاً بقسطهم في هذا المجال. وسواء جاءت مواقف السيد بغطاء سوري أو بلا غطاء، فإنها تشكل في النهاية مادة سهلة تستخدمها دمشق وغيرها في ممارسة مزيد من الضغوط على الحريري والفريق الذي ناصبها العداء في السنوات الخمس الأخيرة للحصول على مزيد من التنازلات حتى إدارة الظهر للمحكمة، والتسليم بدورها حكماً ومرجعاً وحيداً في لبنان. فهل يقدم المتخاصمون على خطوة لإقفال ملف الشهود... ولكن في إطار صفقة سياسية واضحة هذه المرة يتبادل فيها الجميع «التنازلات» لمصلحة البلاد أولاً، وبما يحفظ العدالة للجميع. لأن أي صفقة لا يمكن أن تستقيم بمطالبة طرف واحد ب «تنازل» تلو الآخر، منذ انشطار البلاد بين ساحتي رياض الصلح والشهداء. إن تحريك المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بدأ يكشف سريعاً الكثير من جمر هذه الحرب الباردة، فهل نضجت ظروف الصفقة الكبرى أم لا بد من إشعال النار التي يخشاها الجميع ولا يرغبون فيها؟ وهل يكون لبنان أول شراراتها وأول المحترقين بنارها؟ انها مسؤولية اللبنانيين أولاً.