نملك اليوم في الإنتاج الفكري والإعلامي العربي حجماً كبيراً من الكتابة والتحليل النقدي للواقع، وجرأة لا بأس بها على محاكمة الأحداث التي وقعت، ولكنها معرفة تأتي بعد تشكل الوقائع، ولا تسبقها أو ترافقها على أقل تقدير، ويغلب عليها أنها صحوة بعد فوات الأوان. ولكن الوعي التقييمي اللاحق، والذي نتواطأ عليه في الدول والمجتمعات العربية حكاماً ومعارضات وكتاباً ومفكرين وشعراء ودراميين وسينمائيين، لا يعدو كونه نوعاً من الفساد غير المختلف عن الواقع الفاسد نفسه. في هذا السياق يمكن ملاحظة الموجات والمُوَض في الاقتصاد والسياسات الاقتصادية، والتي يجري تننظيمها وفرضها على المجتمعات والدول كما لو أنها إعصار لا راد له، أو أنها الحل الشافي لكل ما تعاني منه المجتمعات والدول من فقر وبطالة واستبداد وفساد. لم تكن أنظمة السوق أمراً جديداً على العالم، ولكنها في مرحلة الثمانينات تحولت إلى أيديولوجيا تجند الأنصار والإعلام وتحشد الناس لأجل الديموقراطية والحياة الأفضل، وبانهيار الاتحاد السوفياتي فقد تحقق لنظام السوق انتصار حاسم، جعل الدول تدخل في السوق أفواجاً، ولكن النظر إلى أنظمة السوق باعتبارها حلاً وعلاجاً للمشكلات المستعصية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم يكن سوى خرافة، ذلك أن أنظمة السوق في تجربة بلاد المنشأ كانت ضمن منظومة شاملة من الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تعمل السوق من خلالها، ولم تكن في حقيقتها أسواقاً ذاتية التنظيم كما يقال ويشاع، ولكنها كانت مصحوبة ببرامج واسعة للدولة (وبخاصة في أوروبا وكندا وأستراليا) للتنمية البشرية والرعاية الاجتماعية والصحية. مقولة أن السوق هي الحل مررت بطريقة احتفالية للتغطية على نهب مؤسسات الدول وتحويلها إلى أفراد وشركات في صفقات فاسدة سميت خصخصة ولكنها لم تكن سوى عمليات نهب واختلاس واستيلاء فوضوي وظالم على الموارد العامة، فالخصخصة يفترض أن تكون مصحوبة بديموقراطية شاملة في الإعلام والسياسة تسمح بمراقبة العمليات السياسية والاقتصادية وتجعلها شفافة وعادلة، أول وأبسط هذه الخطوات ضمان أن تكون عملية الخصخصة شفافة وأن تجرى في منافسة عادلة، ولكنها طُبقت بطريقة لم يسمح لأحد المشاركة بها سوى للمجموعة المتنفذة نفسها التي تقود عملية الخصخصة، فكان ممكناً أن يتاح للمواطنين على سبيل المثال المساهمة في شركات الاتصالات والكهرباء والطاقة والموارد العامة التي كانت تملكها الدولة، وبذلك تتحول ملكيتها إلى المواطنين أنفسهم، ولكنها غالباً بيعت إلى أفراد محددين ومستثمرين أجانب من دون توضيح كافٍ عن طريقة البيع والتنافس والتسعير، وكان يمكن للحكومات ليس فقط أن تنقل ملكية هذه المؤسسات إلى المواطنين بعامة ولكن أن تحصل على سعر أفضل بكثير مما جرى بيعه في الظلام لمستثمرين أجانب وشركاء للمسؤولين. وطبقت عمليات الخصخصة وكأنها مبرر وغطاء للتخلي عن الخدمات الأساسية العامة كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وعلى نحو سريع متهافت، وكأن المؤسسات والموارد العامة عبء كبير يجب التخلص منه بأسرع ما يمكن، وروجت العمليات المتعجلة والغامضة على الناس وكأنها الوصفة السحرية التي ستخلصهم من الفقر والمعاناة والبيروقراطية. هذه المقالة ليست دعوة لإلغاء السوق ولا الانحياز لخيار الدولة باعتبارها الراعي الأكبر للعمل والرعاية والخدمات، ولكنها ببساطة وضع السوق في موقعها الصحيح، وإذا كانت السوق العالمية تعني تبادل النفع والمصالح فإن السؤال البديهي الذي نتوجه به إلى أنفسنا بماذا يمكن أن نساهم في السوق، ماذا نستطيع أن نصدر إلى العالم؟ وعلى أي أساس نندمج في السوق العالمية؟ وهل الفرصة الوحيدة لنا للمشاركة في نظام السوق هي فتح المجال واسعاً للاستيراد، وعرض ممتلكاتنا للبيع للمستثمرين الأجانب، وبعد ذلك ما الذي سنفعله؟ هذا هو السؤال الماثل اليوم في دول نامية كثيرة زادت فقراً بعدما باعت كل شيء، ولم تحصل على شيء تقريباً، ليس فقط لأن الخصخصة والسوق وحش كاسر أو تحركها دوافع استعمارية، ولكن لأن المشاركة في السوق ليست عملية تلقائية عفوية، إنها ببساطة ماذا يمكن أن نستفيد ونخسر، ما الذي نقدمه وما الذي سنأخذه في المقابل؟ وبالطبع فإنه سؤال بديهي جداً، ولكن يجب أن نعترف بأننا تعرضنا لأسوأ عملية نصب واستغفال في تاريخنا الحديث عندما زينت لنا عمليات السطو والنهب على أنها خصخصة، هذا الميل لإغفال السؤال الأساسي ومواصلة هذا الإغفال يضع المجتمعات على الدوام في خانة التهميش والإفقار. ما الذي يدفع العالم والمستثمرين إلى أسواقنا؟ فإن كانت المؤسسات والموارد التي بعناها فاشلة وخاسرة فلماذا يشتريها المستثمرون؟ وإن كانت ناجحة ورابحة فلماذا نبيعها؟ والسؤال الأكثر قسوة وإلحاحاً هو ماذا فعلنا بثمنها؟ يقدم أمارتيا صن، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد رؤيةً جديدةً لمفهوم التنمية والتطوير قائمة على الحرية، مخالفاً ما دأبت الحكومات والمؤسسات الاقتصادية على العمل على أساسه، وهو زيادة الدخل القومي والتنمية الاقتصادية. ويمثل كتابه «التنمية حرية» حصاد تجربة جذورها وامتدادها في الهند، البلد الأصلي للمؤلف مع تفاعل مع فكر وعلوم الحضارة الغربية؛ حيث يعمل المؤلف أستاذاً للاقتصاد بجامعة كامبردج، كما عمل زميلاً رئاسياً في البنك الدولي، وأميناً عاماً لمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون. التنمية يمكن النظر إليها باعتبارها عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، فالتنمية في حقيقتها هي إزالة مصادر افتقاد الحرية كالفقر، والاستبداد، وشح الفرص الاقتصادية، والحرمان الاجتماعي، والغلو والتطرف، وإهمال المرافق العامة. ويلاحظ أن نقص الحريات مقترن مباشرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية والحصول على حاجاتهم الأساسية، وفي أحيان أخرى يكون افتقاد الحريات مقترناً بضعف المرافق العامة والرعاية الاجتماعية، مثل برامج مكافحة الأوبئة، أو الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية. إن الحرية أمر أساس لعملية التنمية لسببين: سبب قيمي، فتقييم التقدم يتعين أساساً أن يكون في ضوء بيانِ ما إذا كانت حرية الشعب تحظى بالتأييد والمساندة، والفعالية، فإنجاز التنمية والتطوير يتوقف بالكامل على الفعالية الحرة للشعب. وهكذا ببساطة فإننا يجب أن ننظر إلى السياسات والأحداث والتشريعات بمقدار ما تمنحنا من حرية أو تزيد الحريات المتاحة، وهكذا أيضاً يمكن فهم التقدم والتخلف وإلى أين تسير المجتمعات والدول، بتقييم الحالة والظواهر الاقتصادية والدينية الجديدة المحيطة بنا، إن كانت تمنحنا مزيداً من الحرية أو تسلبنا حقاً ومستوى من المعيشة ونوعية الحياة كنا نحصل عليه. يقول الزعيم الشعبي الأميركي الشهير مارتن لوثر كنغ: «التقدم البشري ليس تلقائياً ولا حتمياً، ونحن مرغمون على تقبل حقيقة أننا اليوم نعيش الغد، حيث نواجه حساً عميقاً من العجلة وضرورة التحرك الآن، وفي لغز الحياة والتاريخ الذي لا يخفى على أحد من الممكن أن نتأخر في أداء ما يتوجب عمله، وقد نصرخ بشدة من أجل أن يتوقف الوقت، ولكن الوقت أصم أمام كل رجاء ويستمر في اندفاعه، فوق العظام الواهية والبقايا المختلطة للعديد من الحضارات تمت كتابة هذه الكلمات المحزنة: فات الأوان». * كاتب أردني