كان حافظ حنيف شاهداً على حادثة لم تسلّط عليها الأضواء الإعلامية. ففي آذار (مارس) الماضي، قصفت طائرات من دون طيار، «بريدايتور» (المفترسة)، مقاتلين في شمال وزيرستان. وكان الفتى الافغاني في رفقة عدد من اعضاء «القاعدة» في موكب من سيارتين. وتوقف الموكب للتموّن من مجمع سكني. ولحظة ترجل حنيف من احدى سيارات الموكب، وتوجهه نحو المُجمع، بعد أن دق الباب وابتعد قليلاً عنه متوجهاً نحو السيارتين، على جاري موجبات اللياقة في المناطق الباشتونية، شُنت غارة مزدوجة على السيارتين. وقضى فيها 7 مقاتلين عرب من «القاعدة»، بينهم مسؤول سوري ومصري. ويقول حنيف إن احد المقاتلين لم يقتل على الفور، وأنه حاول مساعدته ولكنه فارق الحياة. وحنيف (والاسم هذا مستعار) يقيم، اليوم، مع والديه في كاراتشي، وهو في ال16 من العمر، والتحق بصفوف الجهاديين، على خلاف مشيئة والديه. وهو تلميذ بارع في الرياضيات، وطليق بالإنكليزية والعربية والأوردو والباشتو. وعلى رغم صغر سنه، أمضى الأشهر ال18 الأخيرة يتدرب في معسكر ل «القاعدة» في المناطق القبلية الباكستانية، على الحدود مع أفغانستان. وتقصت مجلة «نيوزويك» صحة روايته، وحاولت التدقيق فيها ما أمكن. وحنيف هو ابن شقيق مسؤول في طالبان لطالما زوّد المجلة بمعلومات دقيقة. وبعد اختفاء الفتى من منزل والديه في شباط (فبراير) 2009، قصد عمه ووالده مرتين وزيرستان بحثاً عنه. ووجده والده في رحلته الثانية، بعد شهرين من تقفي أثره. ولكن الفتى رفض الابتعاد عن اصدقائه العرب الى أن حملته دموع والدته ورجواها بعد اشهر على العودة. واختار حنيف أن يلتحق ب «القاعدة» عوض طالبان الافغانية التي ينتمي اليها عمّه. فجاذبية المنظمة هذه راجحة في أوساط المقاتلين، ويظهر المنتسبون اليها في مظهر نخبة. ويرى حنيف أن ما عاشه مغامرة كبيرة. وهو يغفل الجانب العنيف من أنشطة المقاتلين. فهم يعدمون الجواسيس المفترضين، ويعتدون بالأسيد على فتيات، ويرهبون السكان في المناطق التي يُحكمون قبضتهم عليها. والانضمام الى المقاتلين الجهاديين، والموت «شهيداً»، هو حلمه الوحيد. فيوم كان في السابعة، اجتاحت اميركا افغانستان. وبدأ الزوار من مقاتلي طالبان ومسؤولين فيها ومؤيديها يتوافدون على منزل عائلته، قرب كاراتشي. ونشأ الفتى وهو يستمع الى قصص عن «الحرب المقدسة» على السوفيات، وحرب الملا عمر على أمراء الحرب الافغان، وعهد طالبان في الحكم. وفي العام الماضي، قابل حنيف رجلاً من القبائل في مقهى بكاراتشي. وكان الرجل يروي قصصاً مثيرة عن حرب طالبان الباكستانية على القوات الحكومية، في المناطق القبلية. ولاحظ الرجل وقع ما يرويه على حنيف. فعاد في اليوم التالي الى المقهى لمقابلته. وطلب حنيف منه مساعدته على الالتحاق بالمقاتلين. وتبين أن الرجل يجنّد المقاتلين لحساب بيت الله محسود، الزعيم الطالباني الباكستاني الذي قُتل قبل عام. وذاع صيت تجنيد محسود شباناً يافعين لتنفيذ عمليات انتحارية. ويُنسب اغتيال بينظير بوتو، رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة، الى واحد من هؤلاء الانتحاريين الشباب. وشعر حنيف أن الحظ حالفه، ولم يخف سعادته. وبعد ايام، غادر منزل والديه في الصباح المبكر. ولكنه لم يقصد المدرسة، بل استقل باصاً مع مجنّده الى مدينة بانّو، المعبر الى شمال وزيرستان. ولكنه لم يصل الى معسكر محسود. فالباص توقف في معسكر ال «قاعدة» على مقربة من مدينة داتا خل، على الحدود الافغانية، ليترجل شابان خليجيان رافقا حنيف من كاراتشي. وأعجب حنيف بالشابين، وتوجه اليهما بالعربية مرحباً، وأخبرهما عن عمّه المسؤول في طالبان الافغانية. فقال له الشيخ عبدالله سعيد، وهو مسؤول ليبي في «القاعدة»: «يمكنك البقاء اذا شئت». وهذا ما حصل. وشارك في برنامج تدريبي دام 3 اشهر. ويروي انه كان متشوقاً ليبدأ التدرب. ولكنه واجه صعوبات. فالمدربون العرب يطلبون من المتدربين بذل جهود كبيرة. وتنوع جنسيات زملاء حنيف في صف التدريب - وعددهم 30 طالباً بينهم شيشان، وسوريون وأتراك وطاجيك وسعوديون وفرنسيان من اصل جزائري، و3 ألمان اثنان يتحدران من اصل عربي او تركي - هذا التنوع هو مرآة جاذبية «القاعدة» وقدرتها على استقطاب المقاتلين من جنسيات مختلفة. وحنيف كان الافغاني الوحيد بينهم، والاصغر سناً. وعدد من الاتراك والاوزبك والشيشان يجيدون العربية أو التركية او الباشتو، وكانوا ينقلون تعليمات الاساتذة الى من لا يفهم العربية. وتعلم حنيف قيادة الدراجة النارية والسيارة وال «بيك آب» والشاحنة. وتلقن علوم الدفاع عن النفس بواسطة السكين وبندقية «أك-47» ورشاش الكلاشنيكوف. ونقل خبراء عرب إليه اصول استخدام المتفجرات، وسبل صناعة سترات انتحارية. «وصار في وسعي صناعة سترات تحتوي على 5 أو 6 كيلوغرامات من المتفجرات والمسامير في اربع ساعات»، على ما يقول حنيف متباهياً. وتدرب حنيف على كيفية الحفاظ على رباطة جأشه حين الاقتراب من الهدف الذي ينوي تفجيره. ويُحفظ زر التحكم بالمتفجرات في سحّاب داخل سترة المتفجرات للحؤول دون تفجير الشاب العصبي والمتقلب المزاج نفسه باكراً، قبل الوصول الى الهدف. ويطلب الاساتذة الى طلاب الانتحار ألا يفجروا أنفسهم لحظة مشاهدة الهدف. ويقول حنيف إن المدربين العرب يدرسون طباع المجندين عن قرب، وأنهم يفضلون الاولاد الاذكياء الميالين الى الامتثال للأوامر، والذين يجيدون قراءة الخرائط، ويسعهم ضبط اعصابهم. وفي زيارته الى معسكر محسود، شاهد حنيف متدربين يافعين لا يزيد عمرهم عن ال12 عاماً. وفي زيارة غير متوقعة، لاحظ بيت الله محسود فتى صغيراً جداً في السن، فطلب من القائمين على المعسكر ان يعيدوه الى اهله. وبعد مقتل محسود، عاد القائمون على المعسكر الى تجنيد الاطفال «المفجرين». ويشد الحنين حنيف الى معسكرات التدريب. ف «الطعام كان لذيذاً، والسلاح جيداً، وأجهزة التفجير متوافرة. وكل ما يحتاجه المرء ليكون جهادياً نافذاً وقوياً كان في متناوله»، على ما يقول. وفي معسكرات التدريب، لا تتوقف مولدات الكهرباء عن العمل. وفي نهاية اليوم، يقضي المقاتلون وقتهم في مشاهدة افلام «جهادية» على اجهزة الكومبيوتر المحمولة. وحين شارف حنيف على التخرج من الدورة، بدأ الجيش الباكستاني حملته على المقاتلين جنوب وزيرستان. فإسلام أباد لم يعد في وسعها غض النظر عن عمليات محسود، إثر اغتيال بوتو. وتفرق المدربون والمجندون مجموعات صغيرة، وفرّوا الى شمال وزيرستان حيث التأم شملهم برئاسة الشيخ سعيد. واستأذن حنيف الشيخ هذا، في مخابرة والدته، ووعدها بالعودة، على رغم عدم رغبته في ذلك. ويقول حنيف: «العرب لا يجبروننا على البقاء، والمعسكرات ليست سجوناً، على خلاف ما تزعم البروباغندا الاميركية. وقال لي العرب أنت حر وتستطيع العودة. ولكن لماذا لا تعدل عن رأيك وتبقى معنا». ويروي حنيف أن المقاتلين الملتزمين يرون الكلام في البيت والعائلة خطيئة. وكُثر منهم يحمل صور منازلهم الجميلة وسيارات فاخرة تركوها عند مغادرتهم الى «القاعدة»، دليلاً على التضحيات التي بذلوها يوم قرروا الالتحاق ب «القاعدة». وبدأت حملات الجيش الباكستاني تُحكم الخناق على المقاتلين. وتقاربت وتيرة هجمات الطائرات من دون طيار. وأزيز الطائرات المفترسة يكاد لا يتوقف فوق وزيرستان. فيعتاد المرء الصوت هذا. وفي العام الماضي، بلغ عدد ضحايا هجمات هذه الطائرات نحو 80 مقاتلاً، بحسب تقديرات حنيف. وهي تقديرات قريبة من أرقام مصدر في الاستخبارات الباكستانية يرى أن عدد قتلى المنظمة هذه في هجمات الطائرات بلغ نحو 120 قتيلاً، في العامين الماضيين. وكثفت قوى الامن الباكستانية حملاتها في اسواق ميران شاه، عاصمة شمال وزيرستان. وقبضت ذات مرة على حنيف واستجوبته. ولكنه نجح في اقناعها بأنه شاب صغير يسعى في الانضمام الى طالبان الافغانية. فأطلق سراحه. وعلى رغم الهجمات هذه، أفلحت «القاعدة» في تعويض خسائرها. وجنّدت مسؤولين جدداً. والمجندون الجدد يتدفقون على معسكرات «القاعدة»، بعد رحلة طويلة تدوم نحو 3 أشهر. فيتجمعون في بؤر آمنة في تركيا والشرق الاوسط وآسيا الوسطى، ومنها يقصدون أفغانستان. وغالباً ما يحمل القادمون من تركيا والشرق الاوسط أموالاً تفوق ال20 ألف دولار. ويرتاب مسؤولو «القاعدة» في القادمين الجدد، ويحسبون أنهم جواسيس، وأن الاستخبارات الاميركية كلّفت بعضهم زرع سيارات «القاعدة» بأجهزة تعقب مغناطيسية تحدد مكانها تمهيداً لقصفها. ويقدر حنيف عدد مسؤولي «القاعدة» في باكستان بنحو 130 شخصاً، جلّهم من العرب، وقسم لا يستهان به منهم شيشاني وأوزبكي، وقلة منهم أتراك. ويقول حنيف إن نحو نصف هؤلاء غادروا الى افغانستان لمساعدة طالبان الافغانية على مواجهة خطة «التجييش» (رفع عدد القوات) الاميركية. وتوزعوا على مجموعات صغيرة من 5 او 6 رجال الواحدة ليلتحقوا بصفوف طالبان الافغانية. ومهمتهم تقتصر على تصنيع السترات الانتحارية، والعبوات الناسفة، وتدريب طالبان المحلية على اصول صنع القنابل، وليس المشاركة في القتال. وبحسب حنيف، بقي نحو 65 مدرباً عربياً من «القاعدة» في المناطق القبلية الافغانية. والرقم هذا قريب من تقديرات رئيس ال «سي آي أي»، ليون بانيتا، الذي يقول إن عدد اعضاء «القاعدة» في أفغانستان يتراوح بين 50 رجلاً و100 رجل. وشأن أقران سنّه الذين يؤخذون ب «النجوم» والقادة، تلمع عينا حنيف عندما يتكلم عن «المشاهير» الذين صادفهم بدءاً ببيت الله محسود وخليفته حكيم الله محسود، وأبو يحيى الليبي، صاحب المرتبة الثالثة في ال «قاعدة»، وآدم غدن، المعروف بعزام الاميركي. وإثر تعاظم خطر هجمات «المفترسة»، اختفى هؤلاء القادة عن الانظار، على قول حنيف. ولا تخبو حماسة حنيف عند الكلام على لقائه بالعميل الاردني المزدوج همام خليل ابو ملال - البلاوي الذي فجّر نفسه في قاعدة استخبارات اميركية في خوست، في كانون الاول (ديسمبر) الاخير. ويقول عنه: «كان دائم المزاح. وكنا ندعوه أبو ليلى. وكان طليقاً بالعربية والانكليزية والتركية، ومقرباً من الشيخ سعيد». وليلى هي ابنة البلاوي البكر. وأقل حنيف و3 من زملائه البلاوي الى ميران شاه في طريقه الى افغانستان لتنفيذ العملية الانتحارية. ويعرض حنيف شريط فيديو على جهاز كومبيوتره المحمول يظهر فيه وهو يصنع سترة متفجرات يزعم أنها السترة التي ارتداها البلاوي. ولا يمل حنيف الكلام على الوقت الطيب الذي امضاه في لعب الكرة الطائرة مع العرب والاتراك، وصيد الارانب والطيور، والطبخ والنوم في العراء. ودرج تجار في ميران شاه على الترحيب بحنيف ورفاقه. وكانوا يدعونهم الى قضاء الليلة في متاجرهم بعد غلق ابوابها لاستخدام اجهزة الكومبيوتر والانترنت والهواتف الدولية. وكان حنيف يقصد سوق ميران شاه مرة في الشهر لشراء مؤن غذائية للمعسكر. فينفق أكثر من 1000 دولار على الغذاء والعتاد. ويقول حنيف إن المال لم ينقص المقاتلين يوماً. فهم يشترون شاحنات «بيك آب» «تويوتا» جديدة و «لاند كروزر» متى احتاجوا. وفي نيسان (ابريل) الماضي، قصدت وحدة حنيف افغانستان، وحملوا هويات افغانية مزورة. ودربوا طالبان الافغانية على صناعة العبوات الناسفة. وفي غزني، قابل حنيف قريب ابو مصعب الزرقاوي الدموي. وأبلغه نيته العودة لزيارة والدته. فأعطاه رسالة من صفحتين يحذره من العودة الى عائلته «لأنها ستغيره»، على قوله. ومضى شهران على عودة حنيف الى كنف اسرته. وهو يواجه الشرور والاغراءات التي حذره منها صديقه العربي. فوالده يحثه على إنهاء دراسته والزواج. وعمّه يدعوه الى الزواج والعمل في التجارة. ولكنه يقول إنه سيخسر الحياة التي يحب إذا نزل على دعوات اهله. * مراسلان، عن «نيوزويك» الاميركية، 13/9/2010، إعداد منال نحاس