كيف يمكن قراءة الإنترنت بعد ان صار جمهورها أكثر من ثلاثة بلايين شخص، وفاق عدد عناوينها الإلكترونية 4 بلايين عنوان، وتجاوزت مُدوّناتها الإلكترونية مئتي مليون، وبلغ جمهور مواقعها الاجتماعية («فايسبوك» و«ماي سبايس» و«تويتر») مئات الملايين، وتعدى عدد مستعملي موقع «يوتيوب» لتبادل الأشرطة بين الجمهور بليونين؟ كيف يمكن رسم صورة عن هذا الحراك الإلكتروني الهائل، الذي بات جزءاً أساسياً من صورة الحياة اليومية في القرن ال 21؟ يحاول المقال الآتي تقديم إجابة عن هذه الأسئلة انطلاقاً من الطريقة التي يرصد فيها محرك «غوغل»، وهو الأكثر رواجاً بين جمهور الالكترون، ملامح الإنترنت حاضراً. تعتبر الشبكة العنكبوتية تقنية اتصال فائقة التطوّر، وأداة ذكية للأعمال والبحوث والمشاركة في المعرفة، كما تستخدم من قِبل أكثر من بليوني شخص. لكن، هل يمكن استعمال الإنترنت نفسها وسيلةً لاستقراء رأي جمهورها العالمي، ومعرفة أهوائه وميوله وهواجسه وأحلامه؟ وبقول آخر، كيف تكون الصورة عندما تفتح الإنترنت بوصفها مساحة واسعة للدراسات ذات الطابع الاجتماعي؟ وهل تستطيع ال «نِت» أن تؤدي دور معاهد استطلاع الرأي؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الإنترنت تشكل أرضاً خصبة للحصول على معلومات أولية عن هذه الأمور. وتصلح هذه المعلومات زاداً للمتخصصين في استقراء الرأي العام وميوله. وتالياً، يطرح هذا الأمر إمكان أن تحلّ الويب محل الانتخابات السياسية مثلاً. لحد الآن، استطاعت الإنترنت أن تكون احدى أدوات الاقتراع، إضافة الى دورها البارز في إدارة الشأن العام كما يظهر في انتشار ممارسة الحكومة الرقمية. ويضاف الى ذلك، أن كثيراً من معاهد الاستطلاع بات ميّالاً للاعتماد على الإنترنت وتقنياتها ووسائلها وأدواتها، لسبر ميول الناس. ديكتاتورية رقمية للإعلام المرئي الأرجح أنه ليس من العبث محاولة استعمال محرك البحث «غوغل» في رسم صورة عن الإنترنت راهناً، بسبب اعتماد غالبية مستخدمي الإنترنت عليه يومياً، وربما بسبب «حياد» نتائجه أيضاً. وتظهر نتائج «غوغل» أن كلمة أميركا هي الأكثر انتشاراً على الشبكة، لكن يصعب معرفة السبب في ذلك: حب أم كراهية أم الأمران معاً أم أن بلاد العم سام تفرض وجودها على الجميع؟ ولا يسهل معرفة ان كان سبب الاهتمام بأميركا راجعاً للسياسة أو الاقتصاد أو العلوم أوالتكنولوجيا. ولذا، لا بد من اللجوء الى طُُرُق لقراءة ما يعطية «غوغل» من نتائج. والمعلوم أن الاستقراء رقمياً يعتمد على طريقتين. تتمثّل الأولى في الاتكال على عدد المرات التي تتكرر فيها كلمة معينة في صفحات الويب. وتعتمد الطريقة الثانية على ملاحظة المواضيع التي يتناولها مستخدمو محرك البحث، عندما يستعملون كلمة معينة كمفتاح للنتائج. ويُلاحظ أيضاً أن النتائج لا تستقر على حال، على رغم تسيّد كلمات معينة، خصوصاً «يوتيوب» «فايس بوك»، كما تتقدّم المواضيع اليومية العابرة مثل الاستفسار عن أوقات القطارات وأحوال الطقس والبرامج التلفزيونية من نمط «ستار أكاديمي»! وكذلك يظهر محرك البحث «غوغل»، عند استعمال اللغة الإنكليزية، أن مصطلح «تلفزيون» Television يُتداول أكثر من غيره، إذ استُعمِل قرابة عشرة بلايين مرة. وتلي التلفزيون، كلمتا «يوتيوب» و«موسيقى» على التوالي. وتأتي كلمة «إنكليزي» English في المرتبة الرابعة، إذ ظهرت 3 بلايين مرّة. وحلّت كلمتا «بريطانيا» و«انترنت» في المرتبتين الخامسة والسادسة على التوالي. والمفارقة ان كلمة «غوغل» نفسها جاءت في المرتبة السابعة، وتلتها مباشرة كلمة «أميركا» America. وفي قراءة هذه النتائج، تأتي خلاصة أولى مفادها أن الإعلام والصورة لهما حضور قوي في الشبكة العنكبوتية. وقد فرضت الصورة وجودها على جمهور الإنترنت. ووردت كلمة «تلفزيون» عشرة بلايين مرة في المواقع الإلكترونية المختلفة. وتبيّن أن كلمة «يوتيوب» في طليعة ما يُطبع في خانة البحث على محرك «غوغل». وتحتل كلمة «الموسيقى» المرتبة الثالثة، ربما تذكيراً بأنها محتوى شائع عالمياً، وتغذي المحتويات الأخرى، خصوصاً التلفزيون. واللافت ان كلمة موسيقى استُعمِلت على الويب أكثر من كلمة «إنترنت» نفسها! وتقدّمت كلمة «سينما» المصطلحات المتصلة بالفنون كافة، بل تقدمت على السياسة وأسماء أهاليها والمهتمين بها عالمياً. ويظهر الاستقراء الرقمي أن السياسة ليست هاجساً منتشراً بصورة ضارية. فقد ورد اسم مايكل جاكسون ضعفي عدد المرات التي ظهر فيها اسم باراك أوباما، على رغم شعبية الأخير الضارية على الإنترنت. وتفوّق جاكسون على بيتهوفن بأربع أضعاف. وأظهرت كرة القدم حضوراً ساطعاً، على رغم تقدّم كلمة «كلب» عليها! وظهر الزمن المعاصر باعتباره أنكلوساكسونياً بامتياز. فعلى رغم التقدم الملحوظ الذي عرفته كثرة من اللغات بالمقارنة بلغة شكسبير، ما زالت الإنكليزية الأقوى في العالم الافتراضي للإنترنت. وانسجاماً مع ذلك، تقدمت كلمتا «أميركا» و«انكلترا» على اسماء بقية الدول. ويرى البعض أن ذلك يتصل بالدور القوي الذي أدّته انكلترا في اللغة والاقتصاد والسياسة والعِلم، إضافة الى تاريخها الاستعماري المديد أيضاً. وقد تجاوزتها أميركا في هذا الاستقراء، الذي لاحظ ان كلمة «أوروبا» تكرّرت بقوة كبيرة. هناك خلاصة ثالثة مفادها أن تقنيات الإعلام الإلكتروني الحديثة عبارة عن عنكبوت حقيقي، صنعه الإنسان لمساعدته فإذا به ينقلب عليه، ويحكم قبضته على عناق البشر، مُحوّلاً الإنسان الى مجرد مستهلك. ولأخذ فكرة عن العملاق العنكبوتي، يكفي القول ان مجموع المرات التي تكررت فيها كلمتا «انترنت» و«غوغل» يساوي 5 بلايين مرة، ما يعني أنها تملأ مكتبة إذا طبعت ورقياً! في السياق عينه، لوحِظ أن الخليوي احتل مرتبة متقدمة في الويب، على رغم حداثة استخدامه كوسيلة للاتصالات. صعود بلاد «العم ماو» في سياق يذكّر بما يجرى في العالم فعلاً، نافست بلاد «العم ماو» القوى الإنكلوساكسونية في الهيمنة على الفضاء الافتراضي للإنترنت. إذ تكرّرت كلمة «الصين» بليوناً و800 مليون مرة. ليس أمراً غريباً. ففي السنة الماضية، وصلت الصين للمرة الأولى، الى تصدّر قائمة البلدان الأكثر تصديراً، على حساب ألمانيا التي تربّعت على ذلك العرش طويلاً. وكذلك حقق اقتصاد الصين خطوات عملاقة في الآونة الأخيرة، وأصبح دخلها الوطني الخام الثاني عالمياً بعد أميركا. وتلي فرنسا الصين، بدفع من لغتها وتاريخها وآدابها وفنونها وفلاسفتها ومأكولاتها ومطبخها ومشروباتها، إضافة الى الشهرة المدوية لعاصمتها. وجاءت اليابانوألمانيا بعد فرنسا، ما ينسجم مع قوة اقتصادهما وحضارتهما. وتتمثّل الخلاصة الرابعة في مادية العالم، إذ تقدّمت أشياؤها الأديان. وسبق اسم بيل غيتس الفيلسوف الأشهر أرسطو. وفي خلاصة خامسة، ظهر أن الفنون ما زالت متقدمة، بل سبقت كلمات مثل الماء والبحر وتغيّر المناخ، على رغم شيوع الاهتمام بها. صورة الإنترنت عن العرب يحلو للمصريين القول ان مصر هي «أم الدنيا». وتثبت الإنترنت أن بلاد النيل تتقدم بلاد العرب كافة، يليها لبنان ثم بلدان المغرب العربي. وبالنسبة للجمهور العربي، جاءت كلمة «غوغل» أولاً. وتلتها أميركا، ثم... «راديو». ولقراءة هذه النتائج بتأنٍ، يجدر تذكّر أن العالم العربي فيه قرابة 60 مليون مستخدم للإنترنت، فيما عدد السكان يقارب 400 مليون نسمة. وكذلك لوحِظ أن كلمتي «زواج» و«جنس» تحتلان مكانة متقدمة عربياً. ومن الطريف القول ان كلمة «تنس» تحتل مرتبة عربية تتقدم على تلك التي تحتلها بين الجمهور الإنكليزي. وينطبق الحال بالنسبة لكلمة «كلب»، على رغم عدم شيوع تربية الكلاب عربياً. ويحتل اسم باراك أوباما المرتبة نفسها عربياً وأنكلوساكسونياً، على رغم الفارق الشاسع رقمياً بين هذين العالمين. وتترد كلمة «إيران» بنسبة مرتفعة في أوساط الجمهور الإلكتروني عربياً، الذي يهتم باسم أسامة بن لادن أكثر من الجمهور الإنكلوساكسوني بأربعة أضعاف. وكرّر الجمهور الأخير كلمة «علم» أكثر من نظيره العربي بقرابة 35 ضعفاً.