الأزمات السياسية لا تمر من دون ثمن قد يكون باهظاً في بعض الأحيان، فهي تربك الاقتصاد والأمن والنظام العام وتزعزع التماسك الاجتماعي حتى في الديموقراطيات المستقرة، والأزمة السياسية التي يمر بها العراق حالياً قد ساهمت في زعزعة الثقة بالنظام الديموقراطي وقلصت من فرص الاستقرار والتطور الذي كان يأمل به عراقيون كثيرون. كما أنها أضرت بسمعة السياسيين العراقيين، خصوصاً أولئك المتشبثين بالسلطة على رغم تفوق منافسيهم عليهم في الانتخابات، وأضعفت شعبيتهم بل وفضحت الازدواجية في خطابهم السياسي من أنهم لا يسعون إلى مصلحة شخصية وأن مصلحة العراق هي دائماً نصب أعينهم. كما فضحت إدعاءاتهم السابقة بأنهم غادروا الطائفية وتبنوا خطاباً وطنياً خصوصاً بعد إطلاقهم إدعاءات طائفية جديدة مثل «أحقية الشيعة» في تشكيل الحكومة على رغم أن كل المتصدين لرئاسة الوزراء حالياً هم من الشيعة. لو أن الأضرار اقتصرت على ما تقدم لسهل الأمر، لكن المشكلة الأكبر تكمن في تأثيراتها السلبية البعيدة الأمد على التماسك الوطني والاقتصاد والثقافة ومضاعفات ذلك كله على مستقبل البلاد. كثيراً ما قادت الأزمات السياسية إلى إنقلابات وضياع للحريات في بلدان عديدة. مخطئ من يظن أن عصر الإنقلابات قد ولّى إلى غير رجعة. وإن تفحصنا التاريخ الحديث لوجدنا أن الإنقلابات العسكرية والثورات الشعبية هي نتيجة متوقعة للأزمات السياسية والاقتصادية وسوء الإدارة لأنها تقدم مسوغاً لطلاب السلطة من الأقوياء كي يستولوا على مقدرات البلاد، وهذا ما حصل على مر التاريخ. هناك دول مستقرة انتكست الديموقراطية فيها بسبب الأزمات والتناحرات السياسية، ولنا في تركيا خير مثال إذ اضطر الجيش إلى تولي السلطة عدة مرات كان آخرها عام 1980 بسبب فشل السياسيين في إدارة البلاد وتقديم قيادة تتمتع بتأييد الغالبية. وقد حصلت تطورات ممثالة في اليونان والارجنتين والفلبين ونيجيريا والبرتغال وأسبانيا والباكستان التي ظلت تتأرجح بين الانقلابات والانتخابات منذ تأسيسها وكان آخر انقلاب فيها قاده الجنرال برفيز مشرف عام 1999. بل وحتى الهند، الدولة الوحيدة في العالم الثالث التي تتمتع بنظام ديموقراطي متواصل منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1947، اضطرت الى تعطيل النظام الديموقراطي وإعلان الأحكام العرفية من أجل السيطرة على الأزمة السياسية والطائفية في أواسط السبعينيات. ولا ننسى العراق الذي كان يتمتع بنظام ديموقراطي استمر 37 سنة حتى استولى الجيش على مقاليد الأمور في 14 تموز (يوليو) 1958 بسبب الصراع على السلطة. فالأزمة السياسية الحالية قد تفتح أبواباً كثيرة للغموض وانعدام الاستقرار، منها الانقلابات المسلحة وتزايد نشاط المليشيات إضافة إلى الانقسامات الطائفية والعرقية وضياع فرصة الرخاء الاقتصادي، وكل هذا ممكن في ظل غياب ضامن قوي لاستمرار الديموقراطية. الترشيحات الكثيرة لمنصب رئيس الوزراء لا تساهم هي الأخرى في حل الأزمة، خصوصاً مع وجود قائمة فائزة ونص دستوري يوضح من يجب أن يكلَّف بتشكيل الحكومة. ليس هناك جدوى من أن تقدم القوائم الأصغر مرشحين لرئاسة الوزراء لأنهم لن ينجحوا في تشكيل الحكومة بسبب تجاوزهم لحقوق الآخرين. إصرار الكتلتين الشيعيتين على أن يكون رئيس الوزراء منهما هو تجاوز للحق الديموقراطي للقائمة العراقية وضربة في الصميم للوحدة الوطنية التي تقتضي إقامة العدالة والمساواة بين أبناء البلد الواحد وعدم التمييز بين الناس على أسس طائفية. كل الأحزاب والقوائم السياسية كانت تتغنى بالعداء للطائفية قبل الانتخابات لكن بعضها لا يستحي الآن من المطالبة علنا بتخصيص هذا المنصب أو ذاك لهذه الطائفة أو تلك. ليس هناك نص دستوري في أي بلد ديموقراطي على أن يكون الشخص المتصدي لمنصب معين منتمياً لمذهب معين، إلا اللهم الدستور الإيراني الذي يشترط أن يكون الرئيس من أتباع المذهب الجعفري، وهذه سابقة خطيرة وسيئة يجب ألاّ يقتفي أثرها أحد. وحتى في لبنان، الذي دائماً ما يوصف نظامه بالطائفي، فإنه ليس هناك نص في الدستور يشترط أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً ورئيس الوزراء سنياً ورئيس مجلس النواب شيعياً. إنه تقليد اتبعه الساسة اللبنانيون وهم يفكرون الآن جدياً بتغييره بسبب الأضرار البالغة التي ألحقها بالتماسك الوطني والاقتصاد لأن النظام الطائفي لا يعتمد الكفاءة والخبرة كأساس لإشغال المناصب بل الولاء لزعماء الطوائف. وفي كل الأحوال، فإن ما يعنينا هو الدستور العراقي الذي يخلو من أي إشارات طائفية في ما يتعلق بالمناصب، والشعب العراقي الذي رفض الطائفية بكل أشكالها وبرهن على ذلك بقوة في الانتخابات الأخيرة التي أظهرت تراجع تأييد القوائم الطائفية وتنامي تأييد القوائم ذات الخطاب الوطني العلماني. ما كانت قائمة دولة القانون لتحقق ما حققته من مكاسب نيابية إلا لأنها تبنت خطابا وطنيا معاديا للطائفية، وقد انتمى إليها كثيرون على هذا الأساس، لكن تراجعها عن استحقاقات هذا الخطاب يعتبر انتكاسة للديموقراطية وحقوق الإنسان وهو بالتأكيد سوف يضرها سياسياً. لن تُحَل الأزمة الحالية إلا عندما تعترف الكتل السياسية بحق الفائز الأكبر في الانتخابات في تشكيل الحكومة بحسب نص الدستور. الزمن وحده لن يحل الأزمة بل قد يزيدها تعقيداً، وتعنت بعض السياسيين وتمسكهم بمواقفهم سوف يفقدهم المزيد من المواقع. قائمة دولة القانون ستخسر كل مواقعها ومكاسبها إن لم تشترك في الحكومة المقبلة لكنها لن تستطيع أن تشكل الحكومة مع وجود معارضة قوية من الكتل السياسية الأخرى. قائمة الإئتلاف الوطني لن تتمكن من تشكيل الحكومة لأنها القائمة الثالثة من حيث الحجم لكن بإمكانها أن تحل الأزمة عبر التخلي عن «التحالف الوطني» والتحالف مع القائمة الفائزة. القائمة العراقية لن تعترف بأي حل يحرمها من حق تشكيل الحكومة الذي اكتسبته بأصوات الناخبين، والقوائم الأخرى لن تستطيع أن تشكل الحكومة من دونها وإن فعلت فإنها تخاطر فعلاً بمستقبل العراق ووحدته الوطنية ومصالح العراقيين الذين يتوقون إلى الاستقرار والعيش الكريم بعد طول معاناة. أما قائمة التحالف الكردستاني فإنها رسمياً تقف على الحياد وتبحث عمن يحقق لها أكبر المكاسب، لكن عليها مسؤولية أيضا في تخليص البلاد من الأزمة الحالية عبر إسناد الفائز الأكبر. الأزمات السياسية المتكررة أوجدت بمرور الزمن مجاميع سياسية متعددة يتوق زعماؤها إلى الموقع الأول في الدولة ويصرون على بلوغ طموحاتهم مهما كان الثمن، وهذا أمر في غاية الخطورة. نجاح الديموقراطية يقتضي من السياسيين أن يتعلموا فن التنازل والتخلي عن الطموح الشخصي والسعي لكسب المواقع عبر نشاطات أخرى والانتظار حتى تسنح فرصة جديدة لتحقيق الطموح، وفي خلاف ذلك فإن مستقبل الديموقراطية في مهب الريح. * كاتب عراقي.