المعلم محمد عوض بن لادن، هذا هو اسم الكتاب الذي أصدره المؤرخ خلف أحمد عاشور آل سيبيه في طباعة فاخرة وأنيقة، مدعم بالصور المختلفة، والذي يعد أول موسوعة ترصد حياة الشيخ محمد عوض بن لادن، من خلال تناول الجوانب المختلفة من شخصية المعلم الذي ظل دائماً يتجنب الأضواء تاركاً أعماله تتحدث عنه. جاء كتاب «المعلّم محمد عوض بن لادن» لخلف آل سيبيه في 232 صفحة، بطباعة فاخرة، واشتمل الكتاب على خمسة فصول هي كالآتي: الفصل الأول: الأصل والمنبت وبداية الرحلة، ويعنى برسم صورة عن البيئة التي نشأ فيها المعلّم في مسقط رأسه (حضرموت)، وامتهانه مهنة البناء التي كانت مجال عمل كثير من أفراد الأسرة. والأساليب المتبعة في البناء في تلك البيئة، وتأثر المعلّم بها، وطموحه غير المحدود من أجل تطوير قدراته، وينتهي الفصل بنيته القدوم إلى أرض الحرمين الشريفين، عقب استتباب الأمن فيها، بعد أن أصبح الحجاز ضمن الدولة الفتية التي أقام بنيانها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله. ويرصد الفصل الثاني وعنوانه «رجل المهمات الصعبة» خطى المعلم منذ أن وطئت قدماه الحجاز واختياره مدينة جدة مقراً وانطلاقة في عالم المقاولات ببدايات متواضعة، وإثباته التميز الذي لفت الانتباه إليه وكرم أخلاقه الذي فتح له الأبواب واسعة حتى نال ثقة ولاة الأمر، الذين كلفوه بمشاريع كبيرة أثبت فيها جدارته ليتوج هذه الثقة بمشروعي توسعة المسجد النبوي والمسجد المكي الشريفين. ويعالج الفصل الثالث الذي جاء تحت عنوان «منهجه في العمل والتعامل» أسلوب المعلّم في أداء عمله وطريقته في التعامل مع العاملين معه، ومع الجهات التي يتطلب إنجاز المشاريع التفاعل معها أخذاً وعطاء، وأثر هذا الأسلوب في اكتسابه ثقة ولاة الأمر، ومحبتهم، ومحبة كل الذي تعاملوا واحتكوا به من قرب، وفي هذا الفصل شهادات حية من الذين شاركوا المعلم جزءاً مهماً من تاريخ حياته الثرية. الفصل الرابع: في خدمة أقدس بيوت الله، يهتم بإبراز المشاريع العظيمة التي قام بها المعلم في المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهي المسجدان الشريفان في مكةالمكرمة والمدينة المنورة والحرم القدسي الشريف، وتوضيح مشاريع التوسعة التي تمت في المساجد الثلاثة، ليتضح حجم الإنجاز الذي قام به المعلم بن لادن ومن بعده أبناؤه من خلال المؤسسة التي أسسها على الإخلاص والتفاني. الفصل الخامس: المعلم الإنسان، وقام فيه المؤلف آل سيبيه بإبراز الروح الإنسانية التي صبغت شخصية المعلّم، والتي كانت تتضح لكل من يتعامل معه عن قرب. وتقدم خاتمة الكتاب صورة عن مجموعة ابن لادن في الوقت الراهن، وما تقوم به من دور عظيم في تنمية الوطن، والإسهام في بنائه وإعماره، سيراً على نهج المعلم الذي حرص على أن يتوارث أبناؤه المهنة التي عشقها، وأخلص لها، إخلاصاً لله، ثم حباً للوطن، ووفاء لولاة الأمر، والتي كانت سبباً في أن تكون له علاقة مباشرة بأقدس بيوت الله في الأرض، لينال بذلك شرفاً لم يسبقه إليه أحد. الأصل والمنبت وبداية الرحلة يقول خلف آل سيبيه في «الأصل والمنبت وبداية الرحلة»: تختلف الأقوال حول ميلاد المعلّم محمد بن لادن، كما هي الحال بالنسبة إلى أعلام ورموز كثيرة، بسبب عدم الحرص على تدوين الوفيات والمواليد في زمن مضى. وعلى رغم هذا الاختلاف، نجد من يحدد تاريخ الميلاد بدقة باليوم والشهر والعام، مثل القول إن الراحل ولد في رباط باعشن – لواء دوعن- من أعمال حضرموت، وذلك في الثامن من شهر ربيع الآخر من سنة 1326 ه - 1907. وفي المقابل نجد من يرى أن مولده كان قبل ذلك التاريخ بنحو عامين، أي أن محمد بن لادن ولد سنة 1324ه الموافق عام 1905 بوادي دوعن بحضرموت». وعن تاريخ وفاة ابن لادن ذكر «أما تاريخ وفاته فهو معلوم ولا خلاف عليه، لأنه كان قد أصبح عالماً يشار إليه بالبنان، وكانت جلائل أعماله ومشروعاته كافية لكي يوثق لهذا اليوم الذي فقدت فيه البلاد رجلاً يمثل علامة في تاريخ العمران الحديث للمملكة، وتقف انجازاته شاهدة على هذه الريادة، من دون أن تكون هناك حاجة إلى رصف كلمات أو اجترار عبارات. فقد توفي في يوم التاسع والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنة 1387 ه (الثالث من سبتمبر/ أيلول عام 1967م) عندما سقطت به إحدى طائراته، وهو يتفقد سير العمل في أحد مشروعات شركته بمنطقة عسير». وعن انتقال ابن لادن إلى أرض الحرمين «فكّر المعلم في أن يجرب حظه، بالسفر إلى أرض الحرمين التي يتابع استقرار الأحوال بها بعد أن شملها الملك عبدالعزيز –رحمه الله- بحكمه العادل الذي أصبح على كل لسان، لما يجده الحرمان في عهده من اهتمام، ولما أصبح الحجاج يتمتعون به من أمان من بعد طول فوضى» رجل المهمات الصعبة في الفصل الثاني وتحت عنوان رجل المهمات الصعبة، تحدث آل سيبيه عن بداية علاقة المعلّم بالملك عبد العزيز رحمه الله «وكانت السمعة الطيبة التي اكتسبها المعلم، وهو يمارس عمله على نطاق ضيق، سبباً في أن يسعى الشيخ عبدالله السليمان – أحد المقربين إلى الملك عبدالعزيز، وأول وزير مالية في العهد السعودي- إلى التعرف عليه، ومعرفة إمكاناته في إنجاز بعض الأعمال التي تحتاج إلى ملكات ذهنية عالية، وذلك بعد عودته إلى جدة، حيث عمل معه، مع بداية مشروع الخرج في بداية الستينيات، كمقاول المشروعات الصغيرة في ذلك الوقت. بعد ذلك أخبر الشيخ عبدالله السليمان الملك عبدالعزيز بخصاله الحميدة، وأعماله الناجحة التي أنيطت به، والتي قام بها خير قيام، فاختاره الملك عبدالعزيز للقيام بأعمال إنشاء القصور الملكية بالرياض. وكلفه الشيخ عبدالله السليمان ببناء قصر خزام الخاص بجلالة المغفور له الملك عبدالعزيز في جدة، مع عمل مزلقان للقصر حتى تتمكن سيارة جلالته من الصعود عليه حتى باب القصر، وكان هذان المزلقان هما الأولان من نوعهما في المملكة، وقد وافق المعلّم على القيام بهذه المهمة، مبدياً ثقة كبيرة باتمامها على أكمل وجه، وفي الوقت المحدد. واستطاع المعلّم تنفيذ ما طلب منه وفق مقاييس عالية نالت رضا الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه- الذي أعجب كثيراً بإخلاصه وتفانيه، ودقته في تنفيذ الأعمال التي يقوم بها. وأعقب ذلك قيامه ببناء قصر بالحجر بالرياض، وهو الأول من نوعه، حيث كانت المباني بالرياض جميعها باللبن» وعن تطوّر علاقة المعلّم بن لادن بالملك عبدالعزيز يروي المؤلف هذه القصة «كان قصر الضيافة المخصص لضيوف الحكومة في الرياض في عهد الملك عبدالعزيز مبنياً باللبن والطين على الطريقة النجدية، ولكن بشكل متطور قليلاً. ولما علم جلالة الملك عبدالعزيز عن زيارة الملك عبدالله بن الحسين للرياض طلب الملك عبدالعزيز الشيخ ابن لادن، وقال جلالته: يابن لادن إنني لا أشك في إخلاصك وتفانيك وعندي لك الشيء الكثير، وهذا القصر مبني على الطريقة القديمة، ولي طلب عندك، وهو أريدك تغيير هذا القصر تغييراً جذرياً وتجديده، بحيث يكون أشبه بالقصور والعمائر الحديثة، وذلك خلال عشرين يوماً فقط. فقال الشيخ ابن لادن لجلالته: أنا مستعد ولكن أمهلني حتى أتشاور مع المهندسين والخبراء. فقال له جلالة الملك: خير، ولكن أريد أن يكون الرد هذه الليلة وأريد وعداً دقيقاً، لأن الملك عبدالعزيز لا يحب أن يخلف أحد معه وعده. وبالفعل أجابه الشيخ ابن لادن بأنه على أتم الاستعداد لذلك، وسوف يقوم بالعمل وتنفيذ ما طلبه جلالة الملك، وسيكون القصر جاهزاً للاستعمال بإذن الله تعالى. وسوف يسلمه لجلالته بعد 21 يوماً، فاستغرب جلالة الملك عبدالعزيز، وقال له: ماذا تنوي أن تفعل؟ فقال له الشيخ ابن لادن سأقوم بخطة بحيث تكون العشرين يوماً هذه بمعدل60يوماً، وسوف أقوم بتوزيع العمل على فترات بين العمال، بحيث يستمر العمل طوال الأربع والعشرين ساعة، وطلبي الوحيد يا جلالة الملك هو توفير طائرتين (داكوتا) تحت تصرفي للمساعدة في إحضار بعض متطلبات العمل من جدة، فوافق جلالة الملك عبدالعزيز . وما كان من الشيخ ابن لادن إلا أن أنهى العمل بإتقان، وسلم المشروع جاهزاً على أبداع ما يكون في اليوم المحدد من دون تأخير. فأعجب أشد الإعجاب جلالة الملك عبد العزيز به، وافتخر بالشيخ ابن لادن على ذلك الإنجاز الذي كان بسبب إخلاصه وتفانيه في أعماله. أعجب الملك عبدالعزيز بحسن عمله وصدق مواعيده وخبرته، وأمانته فأمر جلالته الشيخ عبدالله السليمان بتسليم كامل مشروعات الحكومة وأعمالها إلى المعلّم (المقاول) الشيخ محمد عوض بن لادن، وكانت هذه بدايته في مشروعات الدولة المختلفة، وذلك سنة 1353ه «. منهجه في العمل والتعامل وعن منهج المعلّم في العمل وطريقته في التعامل مع الذين كانوا يعملون معه، قدم المؤلف شهادات عدة. وأكثر ما تؤكده هذه الشهادات تلك الشفافية التي تعامل بها المعلّم مع أصحابها. فهو لم يشعرهم يوماً أنه صاحب العمل أو رئيسهم، الذي عليه أن يصدر الأوامر، وعليهم أن ينفذوا، بل كانت العلاقة إنسانية الطابع، شديدة البساطة، بعيدة عن تعقيدات الهياكل الإدارية والتنظيمية والبيروقراطية التي يعتقد كثيرون أنها النظام والانضباط، وهذا الطابع الإنساني هو ما جعل علاقات العاملين مع المعلّم تمتد مع المؤسسة وأبنائه إلى اليوم، بالطابع نفسه الذي قامت عليه. وفي شهادة الراحل محمد عمر توفيق - وزير المواصلات آنذاك- جاءت كثير من الإجابات عن سر نجاح المعلّم، «وأسباب نيله ثقة المقام السامي، وأسلوبه الفريد في العمل، وتحدث توفيق عن المعلّم حديث العارف وهو الذي لم يكن يعرفه جيداً، لعزوف الرجل عن الظهور تحت الأضواء، مع أن الأعمال العظيمة التي كلف بها تقتضي ذلك من آن إلى آخر. إلا أن الرجل كان يترك إنجازاته تتحدث، ولا يلتفت إلى ما قد يثار حوله من تساؤلات: كيف لهذا الرجل الأمّي أن يبلغ كل هذه المكانة؟ كيف له أن يقيم كل هذه المشاريع؟ كيف استطاع أن ينال ثقة ولاة الأمر ويحظى بتشريفهم له بإنجاز مشاريع عظيمة كتوسعة الحرمين الشريفين؟ بل كيف له أن تتخطى إنجازاته حدود البلاد؟ تساؤلات كثيرة مثل هذه كانت تدور في أذهان بعض الناس كما يفهم من حديث محمد عمر توفيق، ولكن من عرفوه عن قرب، ومن لمسوا إنجازاته على أرض الواقع كانوا يعرفون حقيقة معدن المعلّم. في خدمة أقدس بيوت الله الحرمان الشريفان: تفصح الأرقام والإحصاءات وحقائق الواقع أن ما لقيه الحرمان الشريفان في العهد السعودي من اهتمام بالغ، لم يحظيا به في أي عهد من العهود. وتمثل ذلك الاهتمام في العناية بعمارتهما، وتوسعتهما، وتوفير المرافق والخدمات، وتهيئة كل وسائل الراحة والأمن للحجاج والمعتمرين والزوار. وهذه الخدمة العظيمة للحرمين الشريفين ظلت ممتدة ومستمرة، منذ أن أقام الملك المؤسس قواعد المملكة على الشرع الحنيف، المستمد من كتاب الله الكريم وسنة رسوله، وهذا الأمر استوجب أن تكون الرعاية الأولى للحرمين الشريفين بوصفهما مهوى أفئدة المسلمين، ومصدر عزتهم، ومنبع هويتهم. وكان من فضل الله على المعلّم محمد بن لادن أن حاز ثقة القيادة قبل البدء في سلسلة التوسعات التي بدأت منذ عهد الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وامتدت في كل عهود أبنائه البررة الذين واصلوا ما بدأه والدهم، فجاءت التوسعات في كل عهد بما يناسبه من حيث المساحة، والتقنيات المستخدمة، ووسائل الراحة والأمان المستحدثة. عمارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة: بعد أن منّ الله على المعلّم ابن لادن بأن أتاح له الإسهام في توسعة الحرمين الشريفين من خلال موقعه مديراً للإنشاءات والتعمير، وبقيام مؤسسته بمسؤولية تنفيذ الترميمات والإصلاحات والتوسعات التي تمت في الحرمين الشريفين، تهيأت له الفرصة لخدمة قبلة المسلمين الأولى المسجد الأقصى المبارك، وقبة الصخرة المشرفة. وكان هذا الإنجاز بكل أبعاده مصدر فخر له، لأنه تشريف غير مسبوق أن يخدم المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال. وعن تسلم المعلّم مشروع عمارة المسجد الأقصى يقول آل سيبيه في كتابه: «وقد أدلى المعلّم بحديث صحافي لمجلة «المنهل» في شهر رجب سنة 1378ه تناول فيه تنفيذ مؤسسته عمارة المسجد الثالث من المساجد المقدسة لدى العالم الإسلامي، فقال «لقد وفقنا الله في أن نتشرف بالعمل في عمارة مسجد الصخرة المشرفة، وهو عمل يحتاج إلى تكاليف باهظة. ولكن لا يهم ما دام الرائد الأول هو مصلحة الدين، وعمارة بيت مقدّس من بيوت الله المقدسة... ثالث الحرمين الشريفين». المعلّم الإنسان: كان المعلم محمد بن لادن محباً للخير، مسارعاً إليه وكان حريصاً على أن يضع نفسه في موضع من احتاج وطرق بابه. فالمال والثراء لم ينسياه حياته الأولى عندما كان فقيراً، حتى دفعه فقره إلى دخول حلبة العمل في سن صغيرة، فلم يستمتع بسنوات اللعب واللهو في مرحلة الطفولة. وربما تحمّل المسؤولية وهو لا يزال صبياً يصحو مع طلوع الفجر، ليرافق خاله والمعلمين والعمال ممن امتهنوا مهنة البناء الشاقة، وهم يسابقون الشمس حتى ينجزوا من العمل ما يرضيهم قبل أن تشرق الشمس، وتلفح وجوههم أشعتها الحارقة». سفر العطاء الممتد: بعد أن تناول آل سيبيه قصة حياة المعلّم ابن لادن، انتقل إلى الحديث عن مؤسسة ابن لادن التي تحولت من مشروع صغير في عام 1930، إبان السنوات الأولى من حكم الملك عبدالعزيز إلى مجموعة ضخمة تقف اليوم عملاقة بين أكبر المجموعات الاقتصادية، لا في السعودية فحسب، وإنما على مستوى العالم. وعن منظومة المشاريع التي أسهمت به مجموعة ابن لادن، عرض آل سيبيه مشاريع جامعة الملك عبدالله من خلال تناوله مختلف المراحل التي مرت بها، كما تناول إسهامات المجموعة في ميناء مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن.