لا ينكر مُحَدِّثِي العارف بخفايا مدينة مالمو، أن كثراً من المقيمين فيها لا يعرفون كيف نشأت وتطورت الرؤى والسلوكيات في هذه المدينة، لتصنع منها مدينة عالمية منفتحة حتى أنها باتت تشكل هوية ناضجة لأكثر من 173 لغة تتردد في جنباتها اليوم. يقول إن صحافياً سويدياً كتب ذات يوم من خمسينات القرن الماضي إنه لم يكن عند سكان هذه المدينة الشيء الكثير للتعاطف مع ما هو ملهم، فاهتماماتهم كانت منصبة على النقل البحري وصناعة النسيج وأقصى ما يحلمون به هو امتلاك بيت صيفي في أحد الأرخبيلات، أو في المناطق القريبة من الواجهة البحرية. ربما يمكن ملاحظة أن الانقلاب الثقافي قد حصل في هذه المدينة مع موجات المهاجرين المختلفة التي بدأت منذ عهود. لكن منتصف القرن الماضي سيكون شاهداً على بداية مثل هذه التحولات التي تحتاجها المدينة، فلن تعود كما كتب هيلمار غوللبرغ عام 1944 «المدينة التي يحكمها التجار ومصانع يعانق دخانها الرمادي السماء». لقد بدأت المدينة تتغير مع تعاظم زحف اللاجئين اليها. يمكن اليوم سماع الكثير من اللغات في شوارعها ووسائل النقل المختلفة. لا بل أن ما يميزها عن سواها من المدن الاسكندنافية الأخرى، هو هذا السطوع في محاورة الآخر، وقدراتها غير المتناهية على الاستماع عليه، وكأن خلق مساحات من الودّ بين أبناء الجاليات المختلفة والسويديين، أبناء المدينة الأصليين، صار من مكملات هذه الهوية الناضجة التي يبحث عنها وسط هذه التحولات الكبيرة. من الشوكولا الى الثقافة يقدم مُحَدِّثِي مثالاً بقوله إن مصنع مازيتي القديم الضخم الذي أنتج أطناناً من الشوكولا اللذيذة في أوقات سابقة تحول عام 1992 الى مجمع ثقافي يضم في طوابقه العديدة كبريات المؤسسات الثقافية في المدينة. أما مسرح مالمو الذي شيد خلال الحرب العالمية الثانية رغم اعتراضات السكان آنذاك، فتحول الى أكبر مسرح في شمال أوروبا، وفيه قدم المخرج السينمائي الراحل انغمار بيرغمان بين أعوام 1952 – 1958 تسع عشرة مسرحية من كلاسيكيات المسرح العالمي مع ممثلين من طراز بيبي اندرسون، ماكس فون سيدو، هنيرييت أندرسون. لكن مُحَدِّثِي الذي يلتفت اليّ مبتسماً، وكأنه يخبئ سر هذه المدينة، يقول إن «فاكهة» هذه المدينة الكوزموبوليتانية ستظل على مر الأزمان انيتا أكبيرغ ممثلة فيلم «الحياة حلوة» للمخرج الايطالي الراحل فيدريكو فيلليني. أنيتا ولدت في مالمو عام 1931، وغادرتها الى الولاياتالمتحدة الأميركية عام 1950 عندما انتخبت ملكة جمال السويد، قبل أن توقّع عقداً مع شركة أميركية للعمل مع «مخرج الروائع» عام 1960 في الفيلم الذي أطلق شهرتها في العالم. ضمن هذه التصورات والرؤى التي تعيش المدينة على وقعها انطلق مهرجان مالمو للسينما العربية قبل ستة أعوام، ليتحول الى ركن ثقافي أساسي في خاصرة المدينة التي تتشابه وتتشابك وتتلاقى مع بقية المدن السويدية بأشياء تاريخية مشتركة، وتفترق عنها ب «الهوية الناضجة» لعشرات اللهجات واللغات التي تتفاعل يومياً في شوارعها ومؤسساتها الثقافية وأزقتها ومحالها التجارية. ربما لم يكن ممكناً تطوير فكرة المهرجان والانتقال به الى مدن سويدية مثل هالسينبوري ويوتوبوري بهدف تعميم فعالياته، من دون هذه الهوية، التي صارت علامة فارقة حتى في طريقة تعاطي المواطن السويدي مع بقية اللغات التي تعبر على مسامعه يومياً. ربما تبدو ملاحظة أن هذا المواطن الذي يريد التعرف الى هواجس جالية كبيرة تعيش متلاصقة معه، وتتقاسم معه الهواء أنه صار قريباً جداً من فعاليات هذه الدورة على وجه التحديد. تمكن ملاحظة عشرات الوجوه التي لا تتشابه مع «سحنات» أهل المهرجان من صناع أفلام ونجوم ونجمات ضيوف. هذا يؤكد على نحو ما إنه مهرجان أوروبي عن السينما العربية، لا بل يمكن الذهاب الى أبعد من ذلك باعتبار هذا المهرجان النافذة الأكبر لتبديل تلك النظرات المختلفة التي صارت تسم كل ما هو عربي ومسلم في هذه اللحظات الحرجة التي تمر بها قضايا تخص هذه الجاليات، ويفترض أنها صارت ملك الماضي، لما لهذه المدينة من قدرات كبيرة على امتصاص وهضم كل ما يناقض هويتها الناضجة المسلَّم والمعترف بها، أو حتى ينتقص منها، باعتبار أنها معتادة على مد يد العون لمن وفد اليها من ألمان ويهود وعرب ودنماركيين. عن الثورة وتفاصيلها في اليوم الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) الماضي افتتحت الدورة السادسة من مهرجان مالمو للسينما العربية في مبنى بلدية مالمو رود هوست، تحدث فيه مدير المهرجان محمد قبلاوي وعمدة المدينة ثم عرض فيلم الافتتاح «نوارة» للمخرجة المصرية هالة خليل، وهو فيلم مثقل برموز تلت الثورة المصرية من خلال شخصية الفتاة نوارة – حصد الفيلم جائزتي أفضل سيناريو وأفضل ممثلة لبطلته منة شلبي -. ربما لم تكن هذه الرموز لتحظى بمثل هذه الأهمية لولا التصاقها بالمنعطف الاستثنائي الذي أعقب أحداث هذه الثورة، فمن بين الوعود التي أطلقتها بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك استعادة الأموال المنهوبة والمهربة للخارج. ستعيش نوارة يومياتها بالعمل في فيلا تعود في ملكيتها لأسرة من رموز النظام السابق على هدي هذه الوعود التي لن تتحقق إلا بسقوطها هي في شرك املاءاتها، وتحولها الى ضحية مثل ضحايا كثر آمنوا بهذه الوعود، وبهذه الثورة التي مالت الى التهام أبنائها. فيلم ذكي كان من الممكن أن يقول أكثر من ذلك. استطاعت مخرجته خليل بالعمل على الأمكنة والشخوص أن تقول ما تريد بخصوص هذه الثورة، وإن شاب المونتاج في بعض لحظاته ما يؤثر في السرد وتعافى في أمكنة وضعف في أمكنة أخرى، تعود ربما الى واقعية الأمكنة وقسوتها والتباين الذي نتج من الاصطدام بنوع الشخصيات والأمكنة على المقلب الآخر (الفلول وسواهم) حين اختارتها لتطل منها على أحداث قصتها. بعكس من هذا الفيلم يقدم مواطنها هادي الباجوري في فيلم الاختتام «هيبتا: المحاضرة الأخيرة» النموذج المخالف بتزييفه للواقع من خلال اختلاق قصة حب (رواية محمد صادق)، كان يمكن اعادة توليفها، والتخلص من المحاضرة الأخيرة التي يقدمها الممثل ماجد الكدواني، وقد تحولت الى عبء يثقل الفيلم، وهي تقدم شروحات للشخصيات من خلال الاتكاء على عبارات مثل الحقيقة، الملل، المقاومة، مفهوم الحب، في أربع قصص بدت على شيء من السذاجة والخفة وبخاصة في فهمها لشخصيتي الطفل والطفلة، اذ يجري تحميلهما بأحمال وفهم الكبار لمفهوم الحب بما يمكن تسميته بالنرجسية اللغوية التي تطلق النار على المفهوم نفسه في المحاضرة. سيقدم الأستاذ الجامعي (ماجد الكدواني) شكري مختار رؤيته لهذا المفهوم من خلال شروحات عقيمة تراوح في مكانها لقصص لا يبدو أنها تترابط ظاهرياً، من دون العثور على ما يعادلها في الواقع المصري، لدرجة أن الفيلم يقف على الضفة الأخرى النقيضة لفيلم نوارة في تشريحه الواقعي لشخصيات وأحداث، في ما يبدو «هيبتا» أكثر قدرة على التزييف، والإختلاق لقصص مركبة وساذجة. يجيء فيلم «3000 ليلة» للمخرجة الفلسطينية مي المصري (حاز جائزة أفضل فيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة وجائزة الجمهور) ليقدم مساحة مختلفة تماماً في طريقة السرد والتركيب عن أفلام كثيرة مشاركة. نقف أمام الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة المصرية، وقد عبرت اليه من مخزون بصري مكثف وواعٍ لما يمكن أن تقدم عليه صاحبة «أحلام المنفى». يكشف الفيلم عن نضوج في الامساك بكافة الخيوط التي تقدمها قصة معتقلات فلسطينيات وجدن أنفسهن في معتقل اسرائيلي مع سجينات إسرائيليات جنائيات. حركة الكاميرا التي لعبت دوراً كبيراً في النفاذ الى أعماق الشخصيات، وفي محاورة المكان (اللوكيشن الواحد)، وفي تكثيف الحوارات في واحدة من أعقد قضايا العملية الإخراجية لم تترك ثانية واحدة للملل الذي قد يضرب في الوسط أحياناً. استطاعت مي المصري أن تشكل من لعبة الضوء وحركة ممثلاتها ايقاعاً سردياً متميزاً لبلوغ عتبة القول من إن الفيلم يستحق جائزته عن جدارة. بالطبع حصل الفيلم أيضاً وفي الوقت نفسه، كما أخبرتنا مي المصري في أروقة المهرجان على جائزتين، إحداهما في ولاية مينيسوتا الأميركية. «3000 ليلة» فيلم بديع عن نساء يخترقن العتمة كما ظهرت في الفيلم، ليرفعن أصواتهن عالياً في مواجهة الظلم والطغيان. ديناميكية عالية في انتسابهن الى ايقاع روائي محكم بدا واضحاً من خلال لمسة أنثوية بارعة تنضاف الى صاحبة «أطفال شاتيلا». منعطف أردنيّ الفيلم الأردني «المنعطف» لمخرجه الشاب رفقي عساف، يحمل هموماً لا تختلف كثيراً عن هموم فيلم المصري، وإن جاء في بنية سردية وتشكيلية مختلفة بطبيعة الحال شابها ضعف في بعض الأمكنة. شابة فلسطينية سورية من مخيم اليرموك تريد العودة الى الشام، وتختطف في طريق العودة من قبل سائق السيارة التي تقلها الى دمشق. في المكان النائي الذي تقتاد اليه سنتعرف إلى راضي المقيم في سيارة ميكروباص (أشرف برهوم حاز جائزة أفضل دور رجالي) الذي يشعل ضوء سيارته، فيفر المغتصبان. يقود راضي سيارته في الصبح لإيصالها الى المدينة، وتتعرف إلى دواخله في هذه الرحلة، فنعرف أنه فلسطيني، وسرعان ما ينضم اليهما مخرج تلفزيوني لبناني، وأحد عناصر الأمن العام الأردني. الفيلم الروائي الطويل الأول لرفقي عساف يستحق قراءة منفصلة، وإن اعترته بعض الأخطاء التقنية، الا أن هذا لا يمنع من القول إنه يبشر بولادة مخرج يمكنه أن يقول الكثير. ومن ناحية أخرى فاز الفيلم الجزائري «البئر» بجائزة أفضل إخراج نالها مخرجه لطفي بوشوشة، فيما نوهت لجنة التحكيم بالإداء الذي قدمه الفتيان بطلا فيلم «ساير الجنة» الإماراتي. مهرجان مالمو للسينما العربية في دورته السادسة حقق لمؤسسه ومديره المخرج محمد قبلاوي بعض أحلامه بأن يشاهد عرض الأفلام العربية على شاشة سينما رويال، أكبر شاشة في مملكة السويد. هذا الحلم لم يكن ممكناً ليتحقق من دون دأب. الجهود في تسيير شؤون المهرجان بدت واضحة تماماً. ثمة بعض الإرباكات في التنظيم، لكن هذا لا يؤثر على «الهوية الناضجة» للمهرجان. شهدت الدورة تكريم عدد من الضيوف مثل الناقد اللبناني ابراهيم العريس، المخرج المصري عمر عبدالعزيز، الممثلة التونسية درة، والمخرجة المغربية فاطمة لوكيلي والمخرج العراقي قاسم حول الذي عرض فيلمه الروائي الطويل «بغداد خارج بغداد» خارج المسابقة، وفيه يستمزج أسطورة جلجامش السومرية مع عذابات المثقف العراقي المعاصر واحباطاته. كذلك قدم المركز السينمائي المغربي ممثلاً برئيسه صارم الفهري في أيام المهرجان الذي اختتم في 4 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري ليالي السينما المغربية. سينما نشطة وجديرة بالاحتفاء لم تغب عن ليالي مالمو. لم يكن ممكناً القفز عن هذه الأفلام التي تشكلت منها. بعض هذه الأفلام يحتل مكانة مرموقة في المشهد السينمائي العربي حتى وإن اختلف الميزان النقدي في قول شيء عنها. الجزائر لم تغب أيضاً، بحصول المخرج لطفي بوشوشة عن فيلمه «البئر» جائزة أفضل مخرج كما أشرنا، وحصلت الفلسطينية أسماء بسيسو جائزة أفضل فيلم وثائقي عن فيلمها (لسا عايشة). في مشاريع تطوير الأفلام حصلت المخرجة المصرية نادين خان على منحة المعهد السينمائي السويدي – سكونا – وقيمتها 150 ألف كرون عن فيلمها (بلاد العجائب)، كما حصلت رولا شماس على منحة من المعهد نفسه لفيلمها القصير وقيمتها 30 ألف كرون، وكذلك على ألفي دولار من جامعة سيدة اللويزة. وحصلت مشاريع روائية قصيرة ووثائقية على منح مماثلة.