{ رنا جعفر ياسين، شاعرة وإعلامية وتشكيلية عراقية، أصدرت سبعة كتب بين الشعر والقصة والمسرح، تؤمن بقيم الخير وإرادة التغيير، وأن هناك محطات تجلب الفرح. أدمنت ياسين الطيران، وصارت تبحث عن مواطن جديدة، بكر ومعطاءة، حتى أصبح العالم أكثر رحابة لإنسانيتها، وصار الحلم زادها اليومي الذي يأخذها للكتابة. تعمل على مشروع «أوتا نبشتم» لتجهيز معرض مشغولات يدوية من النحاس والأحجار الطبيعية، في محاولة لترويج الآثار العراقية وتعريف العالم بها والدعوة للحفاظ عليها. أصدرت عام 2013 ديوان «للغواية قواميسها ولك احتمالات البياض»، عن دار الأدهم بالقاهرة، ونحن هنا لنسبر رؤاها وكتابتها، فالتقتها «الحياة» لتتحدث عن تجربتها وهمومها وتطويع الحديد لحلمها في اللقاء التالي: «الحياةُ لا تعدُ بنا/ بضعةُ ضياعاتٍ وجوعُ كبير». كيف نعدها نحن، وهذا القطار المجنون لا يعرف محطة تجلب الفرح؟ - النوايا التي تطرزها الأماني والأحلام وسيلتنا الحقيقية للوصول. الحلم هو السبيل، وغايتنا لتحقيقه أن نصرَّ على الحياة. أؤمن بأننا نصنع الطريق بإرادتنا، نغير زاوية رؤيتنا للأشياء فتتغير الأشياء بحد ذاتها. إذا انتظرنا لن نصل، علينا المسير نحو فرحنا. خلقنا لنكتشف الحياة وصولاً إلى طمأنينتنا الداخلية. لا أؤمن بأن المحطات لا تجلب الفرح. نعم هناك بؤس وهناك خيبات، لكن بإمكاننا أن نقرر المغادرة نحو محطات جديدة، علينا فقط أن نبحث عنها ونكتشفها، وخلال الرحلة نستمتع بالبحث والتنقيب. هي خبرات تضاف إلى أرواحها وتغنيها، لا تكسرها إن قررنا نحن ذلك. «بعد أن تجسدت لن أنطفئ/ سأعود لفتح الأبدية/ أتعالى». هل اكتملنا نجماً لنخاف النهايات؟ هل يشغلك الخلود كما أشغل أجدادك الأوائل؟ - إطلاقاً لا أخاف النهايات. هي بداية من زاوية أخرى. أحب فكرة الخلود، لذيذة، تحفز في روحي كثيراً من الحكايات. نحن أرواح ممتدة، وهذا النظام المفتوح الذي نعيشه يخلق مدى من الفرح والأسى. أُمارس حياتي الحاضرة امتداداً لحيوات أخرى سكنتها من قبل وسأسكنها لاحقاً، لهذا أحاول تأثيث يومي بمناخات تساعدني على المضي إلى الأمام بقلب مفتوح ونية صافية. البداية والنهاية لعبة واحدة تبدأ وتنتهي لتبدأ وهكذا. أستمتع بهما جداً. «من يوصد الجنة؟ ماذا يفتح في رؤياه؟ بهذا الشجن الروحي تأخذين القارئ إلى حلم فردوس غامض، كي يتداعى معك نهر الكلام. هل الجمال يحتاج إلى كل هذه المغامرة؟ - الحياة مغامرة طويلة شيقة، يمكن أن نرى فيها الجمال والقبح، نحن من يختار المشهد. كما ويمكننا توسيع مدى بصيرتنا. فالحياة لا تُرى من زاوية واحدة على الإطلاق، لهذا ربما أستخدم مجازاً «الجنة» لتعبّر عن أحلام منتظرة، أرسمها بألوان رؤيتي الجديدة. أحب الجمال في كل شيء، وأسعى إلى ملاحقته حتى في قلب العتمة. الاختيار لي، فأفتح الرؤية على مداها الأقصى. «قل هو الماء اشتهاء/ قل هي النار ابتلاع»، تتنازعك قوى الطبيعة كما يتنازعك الإيقاع في نص نثري، فما بين الماء والنار مسافة صراع كوني، وما بين «فاعلاتن» يشغلك بحر «الرمل»، وسرعان ما تؤرجحك قيامة النص النثري لتدمير بنية الإيقاع، ما سر المسافة بين الأشياء المتضادة في قصائدك؟ - الليل والنهار، الأبيض والأسود، الأعلى والأسفل، الأيمن والأيسر، كل المتضادات تشكل مفردات حياتنا، كل شيء له وجهان مختلفان، وأنا أحتفي بتلك النقائض، لأنها عندي تتكامل لبلوغ المعنى الكلي للأشياء. أيضاً أشعر أنني ابنة الطبيعة أو جزء منها، وأنصهر في كل يوم أكثر مع تلك القوى في الطبيعة. تلك النار تلهب روحي، الهواء يحملني للأعالي، الماء يغسلني من تداعيات اليوم، والتراب يرمم ما يفسده الدهر. أما بالنسبة للإيقاع، فلا أختاره عمداً ولا أكسره بقصد، الموسيقى تبث نفسها في كتابتي دونما قصد، كما لو كانت الكلمات تلحن نفسها، تعلو، تنخفض، وتصمت أحياناً. لا أخضع لنمط معين في الكتابة، أحب التجريب وأخوض فيه بعمق في كل تجربه، لهذا تتنوع الأصوات والرؤى والأساليب في كتبي، وكلما وجدت نفسي صرت رهينة قالب معين أكسره وأبحث عن منطقة مغايرة تستحق الاكتشاف، وأبدأ من جديد. ما يميز النص النثري اشتغاله على الرؤيا والتلبس بالآخر، لكنك تصرّين على لغة الخطاب في نصوص عدة. ألهذا الحد تفكرين بشخص مهمل تحاولين استعادته أو إحضاره؟ - هو ليس مهملاً، لكنه كان غائباً، والأصح أنه كان مغيباً بسبب منطقة كانت داكنة في وعيي الشخصي. الاكتشاف الجديد يستهويني، وأحب لعبة البحث عنه والتوغل فيه إلى أقصاه. في أحيان كثيرة لا أخاطب أحداً معيناً أو شيئاً معيناً بالضرورة. أفتح خطابي ودعوتي على المجهول بمعناه الأقصى الألذ، الذي لا تعوقه حدود معينة ولا تعرفه خواص. ربما يبدو هذا من الجنون عند بعضهم، لكنها أطراف عالمي القصي التي لا أدرك أنا نفسي حدودها، كما وأجدني كلما حاولت أن أجد لها تفسيراً أو تعريفاً أفسد المعنى. «أرقص بمتعة/ ألهو عالياً/ للجسد طرق غير مرئية/ أستعيد الطيران/ أنا روح تتوهج/ في الزاوية العليا من القلب/ أيها الشاسع المستبد». هناك حال عروج أبدي في روحك، ألا تحذرين السقوط؟ أم أنه مجرد نزق؟ - أنا روح حرة الآن، لم أعد أخاف السقوط والتعثر، الوعي والخيال وجهان لروحي. أعوام وتجارب وقسوة وأحلام كثيرة كلها أوصلتني إلى حقيقة ذاتي، وخلال هذا كنت أنضج من الداخل، وكنت أنزع عني قشرتي يوماً بعد آخر، حتى صارت القيود والعثرات لا تناسب مقاس روحي. لهذا، الأمر ليس نزقاً بقدر ما هو انبعاث جديد بدراية ووعي يؤسس علاقاته الجديدة مع الكون في فضاءاته الأشمل والأكثر اتساعاً. أشعر بأني أحلّق أعلى كل يوم، وكلما ارتفعت صارت المطبات والحفر أكثر صغراً وأبعد مسافة. لا أشعر ببداية للنص ولا بنهايته، ألا توجد لديك أرضية ذهنية لبناء القارئ وتشييد رؤاه بدلاً من إصرارك على التحليق والدوران كما لو أنك عاصفة؟ - البداية والنهاية في النص الشعري بالنسبة لي افتراض يجوز تأويله دائماً، ومع هذا في غالب نصوصي هناك افتراض للبدء وإن كان غير تقليدي. النص يحتاج إلى صدمة شهية وإثارة سؤال داخلي وتعجب، وهذه المرحلة في الكتابة عندي جاءت بعد نصوص كثيرة كتبتها في دفاتر الحرب والدم والمقابر. كانت الأرض عندي مزروعة بالصراخ والخيبة. طهرت روحي بالتدريج للتحليق، إذ لم أعد قادرة على رؤية الدم في الحرف وفي نشرات الأخبار. صار الهواء جناحي الذي يحملني إلى أراض أزرعها بالأحلام والألوان، وعندما أدمنت الطيران صرت أبحث دائماً عن مواطن جديدة، بكر ومعطاءة، عندها صار العالم أكثر رحابة لإنسانيتي التي لم تعد قادرة على المضي بزي الخراب. الحلم وسيلتي اليوم لمداواة المشهد وزاد يومي، وعندما آمنت بالأحلام صارت واقعاً يعاش كل يوم، فصرت أكتب ما أريد أن يصير، وسرعان ما يصير. الجسد مفردة عصية ومواربة على رغم التمرد في لغتك، ألا يفيض بك الحنين إلى نهر اللذة بشكل صريح ومباشر؟ - المباشرة في النص الشعري تخنقه، مُحيلةً المعنى إلى مجاهرة فجّة لا تليق بالشعر. لهذا، هناك مساحة عصية على التسمية في بعض مناطق النص، وإن جاء الحذف في بعضها ليفتح بصيرة المتلقي على أبواب التأويل. «غياب الوطن/ غياب الحب/ غياب الأصدقاء/ غياب الذات». أي منفى هذا؟ أ هو قدر العراقيين في الألفية الجديدة؟ - غياب الوطن هو جذر كل تلك الغيابات الأخرى. المنفى كلمة لم تعد تليق بما يحدث هناك، ربما علينا إيجاد كلمة أقسى وأكثر شمولية. المنطقة كلها تحترق بالتدريج وتحت مسميات كثيرة. العراقي بشكل خاص صار رهينة مفردتين تلازمانه، سواء كان داخل العراق أم خارجه، المنفى والاغتراب. ما يحصل في المنطقة العربية نحن المسؤولون عنه، وفي الوقت نفسه نحن ضحاياه! معادلة تصعب الإجابة عنها في سطرين. عناوينك نصوص مختزلة، بدءاً من الغلاف حتى آخر الديوان، هل ترين القارئ متمرساً لهذا الحد من الوعي بدلالاتك؟ - أكتب ما أبصره وأستدعي القارئ إلى حقول قصيدتي. العنوان لا يقل أهمية عن النص الشعري، كما وأن عنوان المجموعة يجب أن ينتمي لعوالم القصائد داخل الكتاب. الكتاب الشعري له مستويات عدة تكمل بعضها، ابتداء بالعنوان الذي يمثل الخطوة الأولى في طريق تلك القصائد، مروراً بالعناوين التي تشد القارئ بوصفها مدخلاً مستقلاً لعالم كل قصيدة، وانتهاء بالجو العالم الذي يشكل فضاءات الكتاب المتنوعة وهي تنصهر نهاية المطاف. إن وعي القراء مختلف واستقبالهم للعمل الكتابي متنوع، لهذا لا يمكن القياس، وكل عمل إبداعي خاضع لأكثر من تأويل ورؤية تخلق أبعاداً متنوعة للذائقة. بين الشعر والنص السردي القصصي والإعلام راحت رنا جعفر ياسين تبحث عن ذاتها، ثم على مهل راحت تطوع بأناملها الحديد، لتشكّل من خلال النحت والرسم حلمها اللامنتهي، فإلى أين تمضي رنا في حلمها؟ - إلى الأقصى في الكون. هناك في الأقاصي دائماً زاد الروح وماؤها. أمضي نحو اكتشافات أخرى، أرى من خلالها جمال الحياة وإبداع الخلق. روحي تتوق لسر الخليقة في التفاصيل التي تصنع حياة تضع الحلم بين يدي.