يسعى تنظيم «القاعدة» إلى تغيير استراتيجيته، بهدف استقطاب عناصر «متعاطفة» وأخرى «مقاتلة»، تختلف عن عناصره السابقة التي فشلت في تحقيق أهدافه في السعودية. ويتمثل التغيير في إنشاء «محاضن» تربوية للفكر الإرهابي، تعتمد غرس الأفكار المتطرفة بطريقة «هرمية» مباشرة، تنقل القناعات من أفراد الأسرة إلى الآخرين لتفادي أي محاذير أمنية، خصوصاً بعدما سددت السلطات الأمنية السعودية ضربات استباقية ناجحة وناجعة في إفساد استراتيجيات تنظيم «القاعدة» المتعلقة باستقطاب عناصر مقاتلة. ولم يستبعد أكاديمي سعودي وجود قلة من النساء يجعلن أولادهن قنابل موقوتة تنتظر أمر الخلية الإرهابية للذهاب إلى الموت. ونشرت مواقع تابعة للتنظيم وصفحات على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» خطة عسكرية لصناعة أجيال «جهادية» لبناء عناصر مستعدة لتلبية أي نداءات إرهابية. وتتمثل الخطة في إطلاع الأهل والأشقاء على القضايا التي تحدث في المنطقة، وتحريف مفهوم لفظ «الإرهاب» كي يصبح مقنعاً. وكان ملحوظاً أن الخطة العسكرية المذكورة ركزت على دور الأم في كيفية تربية أبنائها. وتشير الخطة إلى أن دور الأم مهم جداً في تربية أطفالها على «حُبَّ الجهاد» ابتداء من الرضاعة، من دون اعتبار لشروطه التي تحتم الحصول على موافقة ولي الأمر، وإطلاعهم على إصدارات التنظيم بأسلوب جذاب. وتؤكد الخطة أن الأطفال سيفهمون تلك المعاني وترسخ في مخيلتهم، خصوصاً إذا استمعوا إلى قصص مشابهة قبل النوم. وذكرت الخطة ضرورة تنشئة الأطفال على أساليب الخشونة، وتقوية أبدانهم بتعليمهم مختلف أنواع الرياضة منذ صغرهم، ما يجعل الأم المغررة تكاد تنشئ معسكراً تدريبياً مصغراً داخل منزلها، وتشدد الخطة على ضرورة مراقبة الأبناء لئلا يتأثروا بمَن حولهم. وتشدد كذلك على عرض صور الأسلحة على الأطفال حتى يعشقوها، خصوصاً المسدسات وبنادق الكلاشنيكوف، بدلاً من جلوسهم فترات طويلة أمام أجهزة الألعاب الإلكترونية مثل «البلاي ستيشن» وما شابهها. وتعرض «الحياة» نماذج من الأطفال انخرط بعضهم ضمن المقاتلين، في تدريبات قتالية، وشاركوا في مواجهات مع أفراد التنظيم. إذ إن حمزة، نجل زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، لم يكن يتجاوز عمره ال 11 عاماً عند وقوع هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ومع ذلك ظهر في مقاطع مرئية وهو ينشد قصائد في حفلة زواج شقيقه محمد من ابنة أبي حمزة المصري - أحد أنصار والده - البالغة من العمر 14 عاماً. ويظهر في تلك المقاطع وهو يخضع لتدريبات قتالية في عام 2005، في ساحة أطلق عليها «مجاهد وزيرستان». وذكرت رئيسة وزراء باكستان الراحلة بينظير بوتو في مذكراتها أنها تلقت تحذيراً أمنياً من أن حمزة بن لادن يخطط لاغتيالها! وتحدث بعض المحللين عن احتمالات أن يخلف والده في قيادة «القاعدة» على رغم صغر سنّه، إذ لم يكن عمره يتجاوز ال 19 عاماً. واكتسب آدم كريم المجاطي (13 عاماً) الذي قتل مع والده وثمانية آخرين في مواجهة الرس في السعودية في نيسان (أبريل) 2005، حب «الجهاد» من والده الذي اصطحبه مع والدته فاطمة وشقيقه إلياس، الى المغرب وأفغانستان والسعودية، وشارك مع والده المتحدر من أصل مغربي، ويحمل الجنسية الفرنسية، في اختطاف أحد المقيمين في الرياض ومن ثم قتله. وقالت فاطمة المجاطي لوسائل إعلام مغربية، بعدما عاشت في أفغانستان مع أتباع أسامة بن لادن: «علّمت زوجي أمور دينه، وهو علّمني أصول الجهاد». وظهر المطلوب خالد السبيت الذي لقي مصرعه محترقاً داخل سيارته أمام منزل في حي الفيحاء شرق الرياض في نيسان 2004، في مواجهة أمنية، يداعب أبناءه الثلاثة من زوجته الشيشانية الجنسية برشّاش ومسدس، في مقطع مرئي عثر عليه داخل منزله، بعدما دهمته الأجهزة الأمنية وفتشته. وظهر في المقطع أحد الأطفال في حضن أبيه وهو يحمل مسدساً. أما الطفل الآخر فكان يتوكأ على رشاش، في إشارة إلى تسخير الأطفال للقتال. ولم يستبعد أستاذ علم الإجرام ومكافحة الجريمة في جامعة القصيم الباحث في شؤون الإرهاب الدكتور يوسف الرميح وجود عدد قليل من النساء يعملن على تأهيل صغارهن للدخول في مستنقع الخلايا الإرهابية، بحيث تربي المرأة صغارها على الفكر الجهادي العنيف، بعيداً من الوسطية وحب الوطن وطاعة ولاة الأمر. وقال الرميح ل «الحياة» إن المرأة ستجعل أبناءها بهذا النوع من التربية «قنابل موقوتة بانتظار أمر الخلية للذهاب إلى الموت كالقطيع بلا هدف أو رسالة». وأوضح الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية يوسف الديني ل «الحياة» أن الوصايا المنشورة على شبكة «الإنترنت» تعيد إلى الأذهان ملف ما يسمى ب «أطفال القاعدة» الذين تستخدمهم الجماعات في تنفيذ عملياتها أو استقطبتهم ودربتهم للقيام بأدوار لوجستية. وقال الديني إن جماعات حقوقية عدة تتحدث منذ فترة عن تدني مستوى الوعي، إضافة إلى معضلات الفقر والأزمات الاقتصادية التي تدفع كثيراً من الأسر في مناطق التوتر إلى الزج بأبنائها في أتون تلك الجماعات. وتم الحديث آنذاك عن تنظيم «طيور الجنة» في تكريت في العراق. وأضاف أن عدداً من المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأممالمتحدة، أوردت في تقاريرها أرقاماً ليست قليلة لأطفال في سجون القوات الأميركية في العراق، تم ضبطهم في معسكرات التدريب ومناطق النزاعات المسلحة. وأشارت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن كثيراً من أولئك الأطفال يُنتزعون من عائلاتهم ويجبرون على التجنيد كعناصر مسلحة، ما يجعلهم يسقطون في الأسر أو يقتلون بدم بارد. ولفت الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية إلى أن وثيقة «خطة عسكرية لصناعة أجيال جهادية» بالغة الخطورة، وتكمن خطورتها في مخاطبة الأم، واقتراح أفكار مناسبة للتأثير في الأطفال في هذا العمر، عبر وسائل تحفيز تعتمد التأثير التربوي البعيد المدى. وأكد أن النقلة النوعية التي يقدمها هذا النموذج تكمن في الحرص على تغيير طريقة تفكير الأفراد منذ الطفولة والتي تعد اللبنة الأولى في تبني كثير من القيم المؤسِسة للشخصية. وذكر الديني أن كثيراً من المنخرطين في الأعمال العنيفة المسلحة تبنوا أفكار العنف في وقت وجيز، لأنها جاءت في شكل ردود أفعال حانقة على ما شاهدوه في شبكة «الإنترنت». وأضاف أن كثيرين منهم يتراجعون عن إيمانهم بتلك الأفكار في أول اصطدام بصخرة الواقع الذي يبتعد كثيراً من الصورة النمطية التي يقدمها إعلام الجماعات الإرهابية. وأشار إلى أن ملف أطفال «القاعدة» يقود إلى تساؤلات رئيسة حول وضع التنظيمات المسلحة راهناً، بعدما فقدت كثيراً من كوادرها النشطة في الميدان، بسبب انتقالها من المواجهات المفتوحة وحرب الشوارع والمدن، للتركيز على العمليات الانتحارية التي يتم الزج فيها بمقاتلين من الخارج. إلا أن تضييق الخناق على الحدود، والنجاحات المتراكمة زمنياً لكشف تلك المخططات نقلا الاستراتيجية من استقطاب عناصر خارجية إلى البحث عن كوادر داخلية. وأضاف: «بسبب تضييق الخناق عليهم، تم طرح مسألة الأطفال والنساء والأحداث غير الراشدين الذين يتميزون بسهولة استغلال ظروفهم المعيشية وإقناعهم بأنهم أكثر كفاءة بحكم حالهم لتجاوز العراقيل الأمنية». وأشار إلى أن هناك استغلالاً من الجماعات الإرهابية لهذه الفئات المستضعفة، من الأرامل والأيتام وضحايا الحروب من الأطفال، في شكل غير أخلاقي يتنافى مع شرائع الأديان وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لكن ذلك لا يلغي القصور الشديد في برامج رعاية هذه الشرائح الاجتماعية، إذ إن أجواء الحروب والنزاعات المسلحة تركز عادة على ملفات المقاتلين وضبط الأمن وتأسيس مركزية الدولة، أكثر من الالتفات الى الجوانب الاجتماعية. وزاد: «هذه الثغرة تنفذ منها الجماعات المتطرفة إلى الأسر المُحْبَطَة لتحاول إقناعها بمشروعها الدموي، بأساليب تحريضية تحاول استغلال الجوانب العاطفية والروحية، أو عبر برامج رعاية مادية شاملة للأسرة التي ينخرط أبناؤها في هذه التنظيمات». وأوضح أن المرأة تقدم اليوم أدواراً لوجستية وتنفيذية داخل الخلية الإرهابية. و «للأسف استطاع الإرهاب تجنيد عدد قليل من نسائنا ليكوّن جبهات حرب داخل بيوتنا لإيواء الإرهاب وتمويله وتجنيده». وراء كل إرهابي امرأة ويجزم الرميح بأن وراء كل إرهابي امرأة، «وهذه المرأة يجندها الرجل للإرهاب ليس لذاتها، وإنما لهدف أكبر من ذلك، وهو تجنيد الأسرة وتفعيلها كمجندة داخل الخلية». وأضاف: «للأسف اخترق الإرهاب عدداً من الأسر السعودية، وجعل المرأة ربة بيت تصنع الرجال كقنابل موقوتة تدمر بها وطنها وأمتها، بأسماء وأوصاف رنانة غارقة في التشدد والتكفير والتطرف والعنف». وعن الأسلوب الجديد في التجنيد داخل المنزل، قال أستاذ علم الجريمة السعودي: «هذا الأسلوب تصعب ملاحقته أمنياً، فتلك المرأة البائسة تربي صغارها على ضرورة عدم كشف أنفسهم في المدرسة والشارع والمسجد». وأشار إلى قيام عدد قليل من النساء بهذا العمل بسبب تضييق الجهات الأمنية على عناصر الإرهاب والفكر الضال، ما دعاهم إلى البحث عن وسائل أخرى للتجنيد كالأم». ولفت الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية إلى أن التنظيمات الإرهابية غيّرت استراتيجية استقطاب العناصر المقاتلة، من نظام «الشبكات المترابطة» التي تعتمد الدعوة المباشرة التي يقوم بها الأفراد المؤمنون بأيديولوجيا التنظيم والمتعاطفون مع أفكاره، إلى البحث عن عناصر جديدة من خلال نظام دعائي شامل يقوم على إنشاء محاضن تربوية للفكر الإرهابي. وأضاف: «يعتمد هذا النظام غرس الأفكار المتطرفة بطريقة هرمية، تعتمد على نقل القَنَاعات مباشرةً من أحد أفراد الأسرة إلى الباقين، تلافياً لأي محاذير أمنية، أو مخاوف من استهداف الطرائق التقليدية السابقة». وأوضح الديني أن «هذه الاستراتيجية الجديدة تشمل الأسر التي تورط أحد أفرادها بالاقتناع بأفكار متطرفة، وتتعدى ذلك إلى الأسر المتعاطفة أو غيرها، إذ يتم صوغ خطاب متكامل من حيث القضايا المثارة وطريقة العرض يتناسب مع الشريحة المستهدفة». وقال إن وسائل الاتصال، خصوصاً «الإنترنت»، لعبت دوراً محورياً في تجنيد وحشد ودعم الإرهاب وتمويله، المرأة هي العنصر المهم، كونها المدرسة لصغارها، وتتميز بخصوصيتها، لعدم تعرضها للتفتيش أو المساءلة الأمنية. ووجدت الخلايا الإرهابية ضالتها في هذه الخصوصية، فبدأت تجند المرأة للعمل الإرهابي على صعدة عدة، كالتنفيذ والتمويل والتجنيد. وتبنى الديني فكرة انتقال الخطاب إلى موجة جديدة، بسبب الضربات المتلاحقة التي تلقتها تلك الجماعات، فاهتدت إلى البحث عن عناصر جديدة من خلال دعوتها إلى تبني فكرة المواجهة برفع شعار الجهاد وطرد المحتل، أو على الأقل الدخول في مرحلة الإعداد، وذلك أقل الواجب. وتطلب هذا الخطاب استخدام وسائل دعائية تتمثل في اللعب على تأجيج العاطفة، ورفع مستوى التضحية في سبيل القضايا الإسلامية، وهو الأمر الذي قامت إصدارات الجماعات الإرهابية (السمعية والبصرية) بدور كبير فيه للتأثير في المراهقين والشبان غير المحصّنين ضد تلك الأفكار.