لم يعد أمام السودانيين الأحرار من كل قيود التحزب والانتماء العقدي، وبلادهم تتشظى أمام أعينهم، سوى الاستفاقة وتنظيم أنفسهم من خلال وسائل الاتصال الحديثة، للاتفاق على ما ينبغي القيام به لتحديد أوضاعهم في «الكانتونات» التي أفضت إليها سياسات الرئيس عمر البشير والمجموعة المتطرفة التي تقف وراءه برئاسة الدكتور نافع علي نافع. ولعل عبارة «تحديد الأوضاع» حمّالة أوجه. بيد أن المقصود بها التوافق على آلية لتوعية الجهات الدولية المعنية بمصير المنطقة بما ستؤول إليه بعد انفصال الجنوب، الذي لا تزال المجموعة الحاكمة في الخرطوم تصوره بأنه ليس الاحتمال الغالب كما يقول خصومها. غالبية السودانيين غير المتحزبين لا يريدون سوداناً تكتب فيه الغلبة للانحيازات القبلية، والعوامل الجهوية، وعلى رغم أن دولة شمال السودان في شكلها الجديد، الناجم عن انشطار الجنوب، ستصبح في نهاية المطاف خاضعة للنفوذ المصري المطلق، وهو تكرار لما حدث قبل قرون خلت، إذ إن مصر لن تتسامح إزاء استئثار متطرفي الجبهة الإسلامية القومية بالحكم في «الكانتون الشمالي» الذي سيكون له تأثير مباشر في أمنها، إلا أن على القاهرة أن تحذر لدغات «الثعابين» الغربية التي أدت سياساتها الاستعمارية أصلاً إلى إنشاء ورعاية كيان «الإخوان المسلمين» الذي أضحى يجيد تغيير جلده تبعاً للضغوط المحلية والدولية. والثابت تاريخاً أن بريطانيا، ولحقت بها الولاياتالمتحدة، هي التي رعت «الإخوان» وموّلتهم وجيّرتهم لمصلحة الأنظمة المؤيدة لها في العالم العربي وآسيا. وهو ما تؤكده الوثائق البريطانية في شأن تمويل لندن ل «إخوان» مصر وسورية والأردن. وإذا كان على البشر أن يعتبروا من دروس التاريخ، فقد رأينا كيف روضت حكومة الولاياتالمتحدة نظام الخرطوم، واستخدمت معه سياسة العصا والجزرة، حتى ركع تماماً، وأضحى يوفد رئيس جهاز الأمن والمخابرات إلى واشنطن لتقديم المعلومات عن «إخوان» ليبيا ومصر، وعناصر «القاعدة» والتنظيمات الموالية لها. ليس مستبعداً أن تنبري واشنطنولندن مجدداً لاستكمال «تركيع» المجموعة الحاكمة في الخرطوم، وهو ما سينطوي بالضرورة على إبقائها في السلطة، على رغم أنف المتغيرات والأوضاع المحلية غير المواتية، بل عدم وجود إجماع وطني على تأييدها، حتى تكون منفِّذاً أميناً للسياسات الغربية تجاه المنطقة. ولعله وارد أن تستخدم لندنوواشنطن نظام «الكانتون الشمالي» ليكون «فزاعة» لتخويف مصر والضغط عليها، وتهديد دول الخليج العربية بالإسلام السوداني المسيّس، وتوظيف النفط السوداني لضرب سياسات منظمة «أوبك»، وتجييره لمصلحة المستهلك الأميركي والبريطاني، في مقابل حماية الغرب لنظام التطرف الإسلامي في السودان الشمالي. والصفوة السودانية غير المنضوية تحت لواء الأحزاب مطالبة بدرس الخيارات الممكنة، لأن فصل الجنوب ستكون له تداعياته اللئيمة على وحدة التراب السوداني. وهي مخاوف حقيقية وليست مصطنعة، أو مبالغاً فيها. فقد كانت «سلطنة» دارفور تتمتع بالاستقلال حتى دحرها البريطانيون عام 1916 وألحقوها بالسودان. كما أن شرق السودان بقي يتململ من السياسات الحكومية الجائرة، إلى درجة أن أبناءه حملوا السلاح بوجه الخرطوم. ومع أن سيناريو التشظي لا يذهب بعيداً إلى تصور قيام دولة مستقلة في الشرق، وأن منح حكم ذاتي موسع كفيل بتلبية تطلعات أبناء الشرق، إلا أن الكيان الشرقي الجديد سيفرض شروطاً مالية في مقابل استخدام موانئ البلاد على البحر الأحمر، والطرق البرية المفضية إلى بقية أرجاء السودان، ما سيعني مزيداً من الأكلاف المالية التي سترهق مواطني «الكانتونات» التي ستنشأ عن السياسة «القاصدة» التي تتبناها المجموعة المتطرفة الحاكمة، ويمكن اختصارها في فرض الشريعة الإسلامية على العباد، واستثناء رجال النظام والمحسوبين عليه من تبعات تلك الهوية المفروضة فرضاً. لقد بات كثير من السودانيين على اقتناع بأن سيناريو التشظي لن يكون أسوأ مما يعيشونه تحت قبضة التطرف. فقد تفشى الفقر فيهم، واستأثر النظام ورجالاته بالموارد والثروة، وأضحى السودان ضحية انحلال خلقي وفساد لم يُعرف لهما مثيل حتى في أحلك عهوده. ولا يشك هؤلاء في أن تقسيم البلاد، ثم تفتيتها، سيكتبان استقراراً جديداً في «الكانتونات» الوليدة التي ستدار في الغالب على أساس قبلي، يمازج بين ضرورات المصالح التجارية وحقوق المواطنة واللحاق بالعصر. بيد أن هذا الجيل الذي لم يكن شاهداً على نشأة الحركة الوطنية التي أفضت إلى استقلال السودان عن بريطانيا ومصر عام 1956، ها هو يشهد تهدم الدولة الموحدة بيد متطرفي الجبهة الإسلامية، ومن ورائهم دوماً العقل المدبر للجبهة الدكتور حسن الترابي، إذ وجب أن تكون له كلمته في صوغ الترتيبات الناجمة عن التركيب الجيوسياسي الجديد لما لا يزال يعرف ب «السودان». صحيح أن تفتيت وحدة الأقاليم السودانية يمثل حسماً من إمكانات السودان وقدراته وموارده، وسيسفر عن إضعاف كلمة السودان واهتزاز صورة السودانيين في العالم، لكن السودانيين داخل بلادهم وفي بلاد الشتات يجب أن يوظفوا علاقاتهم وذكاءهم لبناء وضع جيوسياسي يحمل في أحشائه بذرة الوحدة المستقبلية. لا نريد شتاتاً أكثر مما نحن فيه، بل نريد أن تكون «الكانتونات» الجديدة التي أجبرتنا الجبهة الإسلامية على الانتماء إليها فضاء للحرية، ومعامل للإنماء، ومساحة لقبول الآخر، والانفتاح على الرأي السوداني الآخر، ولتكون الجهود موحدة للحفاظ على أكبر قدر من التسامح والتواصل والود بين كانتونات دارفور وكردفان والشرق والجنوب، حتى يهيئ الله مخرجاً لإخوتنا الذين سيقدر لهم بحكم الجغرافيا والتاريخ البقاء تحت رحمة «كانتون الشريعة» في وسط السودان الحالي الذي ستحكمه المجموعة التي تتحمل أمام الله والتاريخ وشعوب العالم وزر تمزيق السودان. * صحافي من أسرة «الحياة»