مساكين البريطانيون. يحاولون التأقلم مع التغييرات الواسعة التي يشهدها مجتمعهم، لكن الأمر ليس دائماً بالسهولة التي يتخيّلها بعضهم. لم يعد يكفي، كما يبدو، أن يعلّموا أطفالهم ويتعلّموا هم أنفسهم عن الأديان والثقافات المختلفة في العالم، كون أتباعها باتوا أنفسهم جزءاً من النسيج الاجتماعي البريطاني ويُفترض بالتالي احترام عاداتهم وتقاليدهم، مثلما يتوقّع البريطانيون من هؤلاء أن يحترموا بدورهم عاداتهم هم وتقاليدهم المرتبطة بجذور ثقافتهم المسيحية. لكن التعليم الذي يتلقاه البريطانيون عن الأديان والثقافات المختلفة بدا غير كافٍ في الشهور الماضية لفهم أحداث يقرأون عن حصولها على أرضهم، ويقوم بها أتباع الأديان والمذاهب ممن نشأوا في هذا البلد وربما ولدوا فيه لأسر مهاجرة. وعدم كفاية التعليم الديني تظهر بوضوح من خلال تصفّح الجرائد البريطانية التي تنشر في شكل متكرر أخباراً عن جرائم أو أحداث عنف يعجز المواطن العادي عن فهمها للوهلة الأولى. فقبل أيام، مثلاً، تابع البريطانيون محاكمة شاب مسلم متهم بمساعدة صديق له في ارتكاب جريمة قتل طاولت إمام مسجد في مدينة روتشديل (شمال إنكلترا) في 18 شباط (فبراير) الماضي. لكن محاكمة الشاب لم تكن سهلة، إذ تطلّبت شرحاً عن السبب الذي دفع بالشابين (أحدهما فرّ إلى تركيا ويُعتقد أنه في سورية حالياً) إلى قتل الإمام جلال الدين، البنغالي الأصل. فقد تركّز الشرح على مسألتين: تعاويذ (taweez) ورُقية (ruqyah). القارئ العربي لا بُدّ وأنه يفهم معنى الكلمتين، لكن قارئ الصحف الإنكليزية، مثله مثل أعضاء هيئة المحكمة، كان في حاجة إلى شرح لمعاناهما، لأن من قتل الإمام برر جريمته بأن جلال الدين كان يمارسهما، فصدر حكم بقتله على أساس أنه يمارس السحر (magic). انتظر الشابان خروج الإمام من منزل صديق له فهاجمه أحدهما بمطرقة على رأسه وأخذ يضربه بها حتى قتله. أثارت الجريمة وقت حصولها ضجة واسعة في بريطانيا، إذ سرت مخاوف من أن يكون رد فعل من عنصريين بيض على اتهامات طاولت شباناً مسلمين باستغلال جنسي لفتيات قاصرات من روتشديل. ودعت الشرطة وقتها مسلمي البلدة إلى الهدوء، خشية تفجّر مواجهات عنصرية ضد البيض. لكن سرعان ما تبيّن لها أن قاتلي الإمام مسلمان تأثرا بأفكار متشددة وحصلا على رأي ديني يحكم عليه بأنه مشعوذ يستحق القتل. كاد الأمر أن يكون جريمة عادية لولا حاجة البريطانيين، كلما تابعوا إجراءات المحاكمة، إلى فهم الفارق بين التعاويذ والرقية والسحر. وجاءت هذه الجريمة في وقت كان الرأي العام البريطاني يتابع أيضاً جريمة قتل أخرى ارتكبها شاب مسلم وراح ضحيتها رجل آخر بحجة أنه ليس مسلماً حقيقياً. حصلت هذه الجريمة في مدينة غلاسكو الإسكتلندية في نهاية العام الماضي، والضحية صاحب متجر يدعى أسد شاه. عندما اعتقلت الشرطة القاتل، الشاب تنوير أحمد، لم يحاول إخفاء مسؤوليته، بل قال صراحة بالعربية لدى مثوله أمام المحكمة إنه غير نادم على فعلته، وإنه قتل شاه لأنه ينتمي إلى الطائفة الأحمدية ويجدّف في اعتبار نفسه رسولاً. وهنا صار على القارئ البريطاني وأعضاء هيئة المحكمة التي حاكمت القاتل أن يفهموا معنى «الرسول» و«آخر المرسلين»، وما هي الطائفة الأحمدية، ولماذا تحكم شرائح من المسلمين عليها بأنها لا تنتمي إلى الإسلام. وحكمت المحكمة في نهاية الأمر على تنوير بالسجن 27 سنة بتهمة القتل العمد. والحقيقة أن الصحف البريطانية حفلت في السنوات الأخيرة بتقارير مختلفة عن جرائم لم يفهم البريطانيون أسبابها في شكل كامل، لا سيما تلك المتعلقة بما يُعرف ب»جرائم الشرف». كما حصل مراراً في جرائم مرتبطة بحالات زواج مختلط بين سني وشيعية، أو العكس، أو في جرائم مرتبطة بزواج مختلط في إثنيتين مختلفتين (مثل الزواج بين كردي وتركية، أو العكس). وفي الواقع، لا يقتصر عجز البريطانيين عن الفهم على المشكلات التي تحصل بين المسلمين. فقبل أيام سمع البريطانيون بحادثة هجوم مسلّح بالسيوف على معبد سيخي في ليمنغتون سبا بمقاطعة ووركشاير (قرب برمنغهام، وسط إنكلترا). هرعت الشرطة إلى المعبد لتجد نفسها أمام مجموعة من الشبان السيخ وهم يحملون أسلحة بيضاء ويقرأون مقاطع دينية، احتجاجاً على حفلة عقد قران كان يُفترض أن تتم مباركتها في المعبد بين فتاة سيخية وشاب هندوسي، ما أثار حفيظة المتشددين السيخ الذين يرفضون الزواج المختلط. لا بدّ أن البريطانيين مروا بمثل هذه الجرائم في تاريخهم، وتحديداً في ما يخص بإشكاليات الزواج المختلط بين الكاثوليك والبروتستانت وبين البيض والسود. لكن ذلك بات بلا شك شيئاً من الماضي بالنسبة لهم، إذ أضحى زواج البيض والسود وزواج الكاثوليك والبروتستانت أمراً عادياً جداً. لكن المشكلة حالياً، كما يبدو، هي في كيفية أن يضع البريطانيون الجدد، أي أولئك المولودون في هذا البلد أو الذين ترعرعوا فيه، مشكلات خلافاتهم المذهبية وراء ظهورهم كيلا تصير كل جريمة تحصل على أيديهم بمثابة قضية مستعصية على فهم المواطن العادي، كما حصل في جريمة التعاويذ والرقية والسحر.