غيّبت نكبة سورية نكبة فلسطين وقضيتها. بل حشرتها في زاوية صغيرة على خريطة الصراع العربي- الإسرائيلي لتحلّ مكانها لائحة يومية لحرب سورية التي تتواجه في ساحاتها، وعلى مدى جغرافيتها، جيوش وأساطيل في الجو والبحر لدول من الشرق والغرب، وكأنها غنيمة تتنازعها مع جحافل آتية من كهوف الظلام والغيب، فيما «نظامها» المتمثل بقيادة محصنة في حماية أجنبية صامد كرمز لوجود دولة لم تعد موجودة. لكن في البدء كانت نكبة فلسطين، وهي باقية ومستمرة علامة سوداء على جبين الأمة العربية، من مشرقها الى مغربها، مهما تعددت حروبها وتنوعت، الأسماء والأوصاف والعناوين. فإسرائيل في هذا الزمن العربي (الأحمر والأسود) تخطّط وتعمل كما لو أنها على عتبة مرحلة تأسيسها على أرض فلسطين (1948) وكما لو أنها على عتبة انفلاشها وتوسّعها (1967) من دون إغفال هزيمتها في حرب 1973، تلك الحرب التي شكّلت النجمة الساطعة في سماء العرب المظلمة منذ ذلك التاريخ زمن كانت مصر وسورية جبهتين بقيادة مشتركة، وكان الاتحاد السوفياتي جبهة الدعم بأسلحة البر والبحر والجو. فأين مصر اليوم، وأين سورية، وأين الاتحاد السوفياتي؟ ثم أين الرأي العام العالمي الحر الذي كان يحتضن المقاومة الفلسطينية في داخل الأراضي المحتلة، ويتطوع للدفاع عن حقها بالنصر والاستقرار في وطنها. ولا ينسى ذلك العالم «سفينة العودة» الى فلسطين خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي. تلك السفينة التي جمعت رجالاً من مختلف الدول والأمم، مفكرين، وأساتذة، وعلماء، ورجال دين، ومناضلين بالرأي والكلمة دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني بالعيش في وطنه حراً بكامل حقوقه الإنسانية، وإن تحت الاحتلال. في ذلك اليوم وقف هؤلاء الرجال على رصيف ميناء أثينا، عاصمة اليونان، وفي يد كل منهم تذكرة سفر الى حيفا. كانت السفينة الراكدة بمحاذاة رصيف الميناء ترفع علم فلسطين، وكانت رحلتها مقررة نهاراً في بحر الشمس، وكان خط سيرها واضحاً والهدف محدداً: أن يعود المبعدون الفلسطينيون الى بلادهم والى أهلهم. لكن تلك الرحلة الحضارية تعطلّت. فقد سدّت البوارج الإسرائيلية البحر أمام سفينة السلام التي لم يكن على متنها فدائي، ولا مدفع، ولا رشاش. فقط علم فلسطين. ومع ذلك كان الإنذار الإسرائيلي قاطعاً: لا تتحركوا. وإن تحركتم فسوف ندمركم ونغرقكم مع سفينتكم. وكان على «سفينة العودة» أن تلتف على مدارها وتبحر في الاتجاه المعاكس عائدة الى ميناء أثينا. لكن فلسطين كانت قد حضرت في ذلك اليوم وفي الأيام التالية على جميع أقنية التلفزيون العالمية، كما في الصحافة بأقلام كتاب كانت لهم شهرة الدفاع عن حقوق الشعوب التي تناضل وتستشهد من أجل حقها بالعيش في بلادها بحرية وكرامة. فأين يجد الفلسطينيون اليوم مثل ذلك الدعم المعنوي والسياسي لشعبهم ولحقوقهم في وطنهم السليب؟ من سوء حظ الفلسطينيين في هذا الزمن أن بنيامين نتانياهو يلاحقهم منذ أن كان رئيساً لحكومة اليمين الإسرائيلي في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وهو كان قد فاز على رأس كتلة حزب «الليكود» تحت شعار «أمن الإسرائيليين قبل السلام» أي لا أمن إلا للإسرائيليين. وفي ذلك الوقت توقع زعماء الدول الأوروبية المعنيون بأزمة الشرق الأوسط أن يخرّب نتانياهو النتائج الإيجابية التي كانت قد تحققت على الصعيد الدولي، وقد صحّت توقعاتهم، إذ أعلن نتانياهو بوضوح أن السلام مع الفلسطينيين مؤجل إلى تاريخ غير محدّد، وإذا توافرت ظروفه فسيكون من دون أي مقابل يترتب على إسرائيل، مع التأكيد أن لا بحث في موضوع القدس، ولا اعتراف بوجود فلسطينيين خارج أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 1948. في تلك المرحلة كانت دوائر حزب الليكود تروّج معلومات عن مشاريع توطين الفلسطينيين حيث يقيمون في الدول العربية، فترد عليها مكاتب الإعلام التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت ببيانات تعلن رفض التوطين مع التمسك بحق العودة والتأكيد على عروبة القدس عاصمة لدولة فلسطين ضمن حدود 1967. وفي السياق عينه كانت تتحرّك دوائر الإعلام الرسمية في لبنان وسائر الدول العربية فتضيف الى البيانات الفلسطينية تصريحات تصدر عن المراجع العليا مؤكدة «عدم الترحيب ببقاء أي فلسطيني»، بما يعني أن فلسطين بحاجة الى أهلها الموزعين على أقطار الشتات. لقد مرّت 68 سنة، حتى اليوم، على نكبة فلسطين، ولا يزال المخيم رمز صمود الفلسطيني في أوطان اللجوء، كما في الداخل الفلسطيني المحتل. وثمّة شهيدان وشهادتان على ذلك الرمز، هما الصحافي الفلسطيني غسان كنفاني، ورسام الكاريكاتور ناجي العلي. الأول اغتالته العصابات الإسرائيلية أمام منزله في بيروت – الحازمية حيث كان يقيم ويعمل في جريدة «الأنوار»، والثاني رسام الكاريكاتور الشهير ب «حنظلة» في جريدة «السفير»، وقد اغتالته يد إسرائيلية وهو يمشي على رصيف شارع في لندن. ثمانٍ وستون سنة انقضت، حتى اليوم، على نكبة فلسطين الأولى، والأمل بخلاصها يتراجع حتى تكاد جذوة الرجاء في نفوس المؤمنين تخبو. وها هو «المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية» يفنّد الأخطار المترتبة على تجاهل إسرائيل التقرير الذي قدمه أخيراً منسق الأممالمتحدة الى مجلس الأمن الدولي فحركة الاستيطان تستمر بالتوسع، ووفق آخر إحصاء في نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي أعطت حكومة نتانياهو تراخيص بإنشاء 1235 بؤرة استيطانية تمهيداً لتحويلها مستوطنات. كل تلك المساحات تُضاف إلى سجل الأراضي المسلوبة من الفلسطينيين، ولم يكن لمنسق الأممالمتحدة إلا أن يرفع تقريره الى مجلس الأمن الدولي للإطلاع... ثم... للحفظ... هكذا يجري تذويب فلسطين فيما الدول العربية منشغلة عنهم بنكبة سورية وتردداتها المحتملة على دول أخرى. وفي الوقت عينه تنشغل خطوط التواصل والزيارات المتبادلة بين إسرائيل وعواصم دول أخرى: فرنسا، وروسيا، وتركيا، والولايات المتحدة الأميركية، وأخيراً مصر. وفي هذه الظروف التي لا أسوأ منها منذ نكبة 1967 يُدعى الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، على جبهتي الضفة وقطاع غزة، الى انتخابات (محلية) في الثامن من شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. ولا يملك رئيس السلطة الوطنية محمود عباس في هذه المرحلة سوى التذكير بأن الشعب الفلسطيني يسعى ويمد يده لتحقيق السلام القائم على الشرعية الدولية لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية على حدود 1967. كلام سياسي ديبلوماسي مكرّر لا يُصرف في دوائر القرار الدولي. لكن المصيبة الفلسطينية «لا تجمع» كما يُقال في الأدبيات الشعبية العربية. بل إنها في فلسطين، خصوصاً في فلسطين، تفرّق. وإلا ما معنى «حكومة السلطة» في رام الله، و «حكومة حماس» في غزة، وماذا يحول دون «حكومة الوحدة الوطنية» التي تتكلم وتتخذ القرار باسم كل فلسطين وكل الفلسطينيين، في الوطن المحتل وفي أوطان الشتات. لتأتِ المبادرة من البقية الباقية من الفلسطينيين في ما بقي من فلسطين. إذا كان هذا صعباً على الفلسطينيين في ديارهم المحتلة، فما هو الأصعب؟! لكن الفلسطينيين، وسائر العرب، مع شعوب العالم الحر، لن ينسوا تلك «الهبّة» الفلسطينية عام 1987 من القرن الماضي، وكان رمزها «الحجر عابر القارات». ولم تكن الهبّة الأخيرة في القدس وضواحيها إلا تأكيداً على أن سلاح الحجر لا يزال فعالاً، لكن بحدود لا تقرب من الانتحار. ويبقى القرار الفلسطيني للفلسطينيين الباقين في ما بقي من فلسطين. * كاتب وصحافي لبناني