نداء جرفني للخروج، فلبست حذائي على عجل. لم يكن بوسعي أن أرمي فرحة خروجي، وأظل محبوساً بين الجسد النحيل والجدران المرسومة لي. تمهلت في سيري، واستدرت كثيراً. ربما ألمح هائماً مثلي. فرحت كثيراً، فقد امتص الليل الحركة، والضوضاء، والسعي المبجل الممزوج برائحة العرق اليومي. انتابني شعور بالتفسخ، فرفعت بصري الى السماء. رأيت النجوم تشاركني في هذا الوقت، وتسير معي حتى لا أقع في حفرة، أو يتسخ حذائي الجديد. الشوارع المزدانة بذبالات ضوء شحيحة لا تعرفني. هذه البيوت تعرفني في وقت آخر. أنفاسي جلية، تشجيني، وتجعلني أجزم أنني المتوج على عرش ليل بلدتي. عقدت العزم على أن أتسامح، وأصادق من يقابلني من العباد. لن أسير وحدي، ولن أعاقبه إذا امتهنني. أبصرت نفسي جيداً، ورغباتي تحفّ من حولي، وتطن في أذني «لكِ الله يا بلدتي. تنامين حين أستيقظ، وهذه الشوارع الآن لا تعرفني، ومكتومة بمرض الخرس الليلي». تذكرت أن هناك حانة يلتم فيها المبعثرون ليلاً، فهرولت في سيري، ودرت حول البلد حتى كلّت قدماي. لا أثر للحانة، أو لأي حياة. لا يمكن أن أسكت على هذا الوضع. ربما تكون الحياة داخل هذه البيوت المقفلة على أصحابها. تذكرت حكايات كثيرة قديمة داخل هذه البيوت، فاشتعل في قلبي حنين جارف إلى طارق، فانبسطت أساريري. وكانت قدمي تعرف الطريق وحدها، فقد كنت مشغولاً بالفكرة. حتى وجدت نفسي أمام البيت، فنقرت الباب نقراً خفيفاً. توجست، فربما... - ما الذي أتى بك بعد الذي كان منك؟ - فلننس، وليكن حساباً عسيراً حينما يتكرر الخطأ - لقد سودت الورقة البيضاء، وانتظرت اعتذارك كثيراً - الضعف يكسوني، والعتاب مرّ - لو طالبتني بنقودك، لكان الأمر أهون عليّ. لكن أن ترسل لي أمك لتحصّل لك الدين قبل موعده، فهذا لا يمكن غفرانه. تذكرت هذه الحادثة القديمة، وأدركت أنني قد أرسلت إليه في آخر مرة مبلغاً من المال، وورقة مكتوب فيها: لا ترسل لي أمك مرة أخرى. في هذه اللحظة، سمعت همهمة تنم عن قيام، فأخذت ذيلي في أسناني، ومضيت أقضم أصابعي ندماً، وتنحيت عن هرولتي، وسرت ببطء، ثم قلت لنفسي: - أدور حول بلدتي ألمح تغيراً في المحلات القليلة وأسمائها، والشوارع تضيق أحياناً، وتتسع أحياناً. تخطيت الكثير من الشوارع، والكلاب تنبح حين تراني، فأفزع. لكنني أتمالك حتى لا تنهشني. وكلما يراني كلب، ينبح، ويشمر عن أرجله، ويبرز أنيابه. النباح يقلق البلدة، ويخمش الصمت. أسمع استجابات كثيرة لنداء الكلب الذي رآني، فأنزوي في ركن مظلم، وأفزع حين أرى الكلاب تتجمع وهي لاهثة. تحاصرني الكلاب. أبحث عن موضع لقدمي. أخشى الأنياب، وأتحسس جيبي، لم أجد طعاماً، فرميت لها نقوداً معدنية. سكتت حين سمعت رنّة الفضة. أعرف أن الكلاب طيبة. لقد تعودت أن أراها لا تنبح في النهار، فأدرك أن هناك خطأ في نباحها ليلاً. ثقتي تهتز، وقوتي الآن مرهونة بقدمي. ألمح كلباً يمشي ورائي. أقف، فيقف أيضاً. حاولت هشّه، فلم يعرني أي اهتمام، فجريت بكل قوتي، والكلاب تسيطر على مشاعري. في جوار النهر لمحت رجلاً، ففرحت. أسير ناحيته. أحسّ أنه ينتظرني. يا له من رجل كريم. حين اقتربت، أخرج يديه من البالطو الأصفر الصوف، والباهت، ورفع بندقيته الخشبية. أتحسس جيبي، فأعرف أنّني أملك ما بها. كانت عيناه ترمي اتهاماً. نظرته تحرقني. سألقي عليه السلام فقط، وأمضي. حين أصبحنا وجهاً لوجه، لم أعره أي اهتمام، وسرت في طريقي. شغلني هذا الرجل عن أمر الكلاب. أعرف أنه يتجشم مغبة الوقوف والانتظار. من أتى به إلى هنا؟ ربما يكون عائداً من السفر، وربما يكون من البندر المجاور (ياه لقد نسيت النقطة). ها هي نقطة البوليس، وها هو الخفير يحرسنا. أحسّ أنه يتبعني، فقد كانت نظرته مريبة. هرولت في سيري. لمحت خفيراً آخر. ربما أضحت البلدة كلها خفراء. لست أدري. لمحت خفيراً أمامي. سألقي عليه السلام لينشغل بالرد، وأمضي سريعاً. عليّ أن ألبس رداء الضعف الآن. حين قابلته - لا تفصلني عنه إلا الأنفاس - سرت، ولم ألق سلامي. لكنني أحس أنه يتبعني، هو وآخرون، فأتحسس جيبي، وأقبض على ما بها بقوة وتوجس. على مشارف بيتي نظرت خلفي، وأقفلت الباب بسرعة، ومنيت نفسي بضجيج النهار.