ليست قضية مسلسل «السيد المسيح» الذي أثار حفيظة المركز الكاثوليكي للإعلام وجهات مسيحية أخرى في لبنان، مجرد قضية إعلامية أو رقابية أو تلفزيونية، بل هي قضية تصب أولاً وآخراً في جوهر الحوار الإسلامي – المسيحي في صيغته اللبنانية. فالمسلسل الذي كانت تعرضه قناة «المنار» التي يملكها حزب الله وقناة «أن بي أن» التي يقال إنها شيعية الهوى، لم يرق المراجع المارونية التي اعتبرت ان فيه مغالطات تمس العقيدة المسيحية. وتحاشياً لأي فتنة قد تنشب خلال شهر رمضان، عمدت القناتان الى وقف بث المسلسل على رغم قناعتهما بأنه لا يسيء الى شخص النبي عيسى ولا الى رسالته. لم يشأ القائمون على القناتين إغاظة شركائهم في الحوار الوطني، فأوقفوا بث المسلسل بعد عرض حلقتين، قبل ان ينالوا الموافقة على بثه من الأمن العام اللبناني الذي يتولى الرقابة على الأعمال الفنية والأدبية. أما القائمون على المركز الكاثوليكي للإعلام فأصروا على عدم اعتبار وقف المسلسل انتصاراً. إنها «الطريقة» اللبنانية في إحلال التراضي الطائفي، مهما كان ثمنه، وفي تحاشي «الفتنة» التي لا ملامح واضحة لها أو معايير. هذه المرة بدا الأمن العام هو الأكثر حياداً، فهو لم يجرؤ اصلاً على منع المسلسل الذي لم يشاهده مسبقاً، بحسب قانون الرقابة، ولم يمنحه إذناً يسمح بعرضه. لم يقتحم رجال الأمن العام مكاتب القناتين كما يفعلون في المسارح والصالات التي تنتمي الى الحياة المدنية، ولم يصادروا الأشرطة، بل على العكس، بدا الأمن العام الجهة الوحيدة الغائبة أو شبه الغائبة عن ساحة هذه القضية، فهو حريص على الروح الوطنية وعلى الحوار بين الطوائف وعلى السلم الأهلي وسواها من شعارات برّاقة وخاوية... أُوقف المسلسل إذاً وكان أول من حمل «الخبر السار» – كما عبّر المركز الكاثوليكي للإعلام - وزير الإعلام طارق متري. استطاع هذا الوزير المثقف والمتضلّع في الحوار الديني اللبناني أن يرضي الطرفين «المتحاورين» وأن يخلص الى نهاية سعيدة تليق بهذا «الحوار» الذي يتميّز به لبنان، والذي تجب حمايته من عبث العابثين وخبث الخبيثين... ولعل وزير الإعلام الذي يملك خبرة طويلة في حقل حوار الأديان، يعلم جيداً ان القضية لم تلق الحل الملائم وأن المصالحة التي حصلت شكلية وعارضة، ما دامت الحوافز التي كانت وراء البث والاعتراض والوقف ماثلة في النفوس وإن سراً أو خفية. ولعل ما يؤلم ان يصبح طارق متري، المثقف العلماني والكاتب والباحث، شاهداً على هذه «المصالحة»، بل عرّاباً لها وهو على يقين أنها ليست إلا ضرباً من الوهم والإيهام. لم يسئ المسلسل حتماً الى شخص المسيح، وليس في إمكان أي مقاربة إسلامية ان تسيء الى شخص النبي عيسى الذي أولاه الإسلام مكانة عالية. لكن القراءة الإسلامية لشخص عيسى تختلف عقائدياً عن صورة المسيح بحسب الأناجيل الأربعة، وهذا الاختلاف يشمل حقائق يعتقد المسيحيون ان من المستحيل ان تقوم المسيحية من دونها. وما يجب الوقوف عنده ان المسلسل ليس إلا صيغة مشهدية أو تلفزيونية لكل ما كُتب عن المسيح في الإسلام، ولعله لا يتعدى حدود هذه القراءة التأويلية. هذا ما يجب الاعتراف به جهاراً. تُرى، لو قرأ القائمون على المركز الكاثوليكي للإعلام الكتب التي تناولت المسيح كما ورد في القرآن، ومنها كتاب بديع صدر في الأردن عن مؤسسة حوار الأديان، ألن يشعروا بما شعروا به إزاء مشاهدتهم هذا المسلسل الذي لم يأتِ بجديد في هذا الميدان؟ القضية إذاً أبعد من مسلسل ومن اعتراض وفتنة. القضية تكمن في عمق الحوار بين الأديان والطوائف، وفي المأزق الذي يصر أهل الحوار أو صانعوه على التغاضي عنه وعلى تجاهله أو تناسيه. أعرب أحد المطارنة عن تحفّظه إزاء أي مقاربة إسلامية، أدبية أو فنية، تتناول المسيحية، تاريخاً ومفهوماً، ما لم تنل مسبقاً رضى المراجع المسيحية. وفي السابق أعرب ايضاً رجال دين مسلمون عن رفضهم أي قراءة للدين الإسلامي تخرج عن الرؤية الإسلامية. وكما تجمّع مؤمنون مسيحيون في المركز الكاثوليكي مستنكرين بث المسلسل ومهدّدين بتنيظم تظاهرات شعبية، هاجم اصوليون مسلمون قبل عامين إحدى المناطق المسيحية احتجاجاً على الرسوم الدنماركية المسيئة الى الإسلام. ومثلهم اقتحم مرة مناصرون ل «حزب الله» أحياء مسيحية اعتراضاً على برنامج تلفزيوني قدّم السيد حسن نصرالله في صورة كاريكاتورية. كل هذه الظواهر تدل على ان الحوار الإسلامي – المسيحي ليس على ما يرام، وأن ما يتكلم عنه المتحاورون هو عكس ما يضمره المواطنون اللبنانيون الذين ينتمون الى طوائفهم قبل انتمائهم الى هذا الوطن الذي ما برحوا يختلفون على هويته. ولعل الحلقتين اليتيمتين اللتين شاهدهما الجمهور اللبناني قبل وقف المسلسل لم تنمّا عن إساءة للمسيح بل على العكس، ففيهما تجلّت المرحلة الأولى من حياة يسوع أو عيسى وبرزت معجزات قام بها. إلا ان فكرة «مخلوقية» المسيح سمحت للمخرج الإيراني ان يصوّره كنبيّ، مرتكزاً الى نظرة الإسلام إليه، وبعيداً عن فكرة التجسد والفداء والتثليث وسائر المقولات التي يقول بها اللاهوت المسيحي. هكذا لا يمكن ان يوصف المسلسل في كونه عملاً عن المسيح بحسب الأناجيل، بل هو كما قال مخرجه الإيراني نادر طالب زاده الذي أعده عن فيلم سابق، يضيء «شخصية النبي عيسى بن مريم ورسالته ويعكس مسيرة حياته وآلامه». وقال المخرج انه قرر ان ينجز هذا المسلسل رداً على فيلم الأميركي ميل غيبسون «آلام المسيح». إلا ان هذا المسلسل بدا أشد رحمة والتزاماً من أفلام أجنبية تناولت شخص المسيح وأحدثت سجالاً في الغرب ومنها: «يسوع سوبر ستار» و «يسوع مونتريال» و «التجربة الأخيرة للمسيح»، وهذا الفيلم من أجمل ما أنجز المخرج الكبير مارتن سكورسيزي. لكن الكنيسة لم ترض عنه وواجهته، مع ان الفيلم لم يؤخذ عن الأناجيل بل عن رواية للكاتب اليوناني الكبير كازانتزاكيس تحمل العنوان نفسه. قد يكون من حق المسيحيين ألا يرضوا عن هذه المقاربة المختلفة للمسيح، لكن عرض المسلسل ما كان ليسيء إليهم ولا إلى إيمانهم ولا إلى شخص المسيح. وقد يكون مهماً ان يطلع المسيحيون على نظرة «الآخرين» الذين يشاركونهم في المواطنية والحوار، الى شخص المسيح والدين المسيحي. فالإيمان الحقيقي لا يعني الانطواء على النفس والانغلاق حيال الآراء الأخرى ولو كانت مختلفة. غير ان القضية، قضية هذا المسلسل، سرعان ما سُيّست وانبرى بعض السياسيين الى إبداء آرائهم «اللاهوتية» جاعلين من هذه القضية ذريعة لمعركة دونكيشوتية تساعدهم في كسب المزيد من الأصوات والمناصرين. انتهت القضية ظاهراً وأوقفت القناتان بث المسلسل ووئدت الفتنة – ويا لها من فتنة – في لحظتها، واستعاد أهل الوطن الواحد وئامهم وسلامهم الأهلي. لكن القضية هي أبعد من ان تنهيها مبادرات سليمة النيات وبريئة، فتجاهل الطائفية لا يعني زوالها وتناسي المتناقضات لا يعني سقوطها. والأخطر هو ان يتراكم الجمر تحت الرماد. * من أسرة «الحياة»