ثمة أزمة معنى يدور حولها جدل كبير في علم الاجتماع الغربي، تنبت من شعور الإنسان المعاصر، في مجتمعات ما بعد (الصناعة، الحداثة...)، بالتعاسة والتوتر رغم إشباع كل احتياجاته المادية إلى درجة لم تتحقق قطعاً في أي حقبة تاريخية سابقة. ومن ثم فهي أزمة وجودية، مصدرها الشعور بالافتقار إلى معنى كلي للحياة التي صارت أقرب إلى مجموعة تفاصيل متناثرة لا قصد لها، يكررها الإنسان يومياً، ويعاني ضغوطها باستمرار، حتى في أرقى المجتمعات وأغناها، الأمر الذي يمكن تبريره بتقوض ركائز المجتمع التقليدي (التراحمي) تحت ضغط دوافع عديدة نتوقف هنا عند ثلاثة أساسية منها: الأول هو ذبول مفهوم «الرزق» أمام ضغوط نمط الحياة الاستهلاكي، سريع الإيقاع محكم الحلقات، الذي يدفع الإنسان نحو الانشغال الدائم بتنمية عوائده المالية، ليس لأنه يعاني فقراً واقعياً، إذ ربما كان ميسوراً حقاً، بل لخشيته من الافتقار مستقبلاً، حيث المجتمع الاستهلاكي مرعب، قادر على التوليد الدائم للرغبات الفائقة، وعلى إثارة الشعور بالحاجات غير الضرورية التي يتم اختراعها يومياً، ومن ثم يصاب الإنسان بالدوار النفسي، لأنه إذا كان قادراً على مجاراة ذلك المجتمع اليوم، فربما عجز عن مجاراته غداً، فلا مكان للاطمئنان، ولا سقوف للأمان. وبفعل هذا النهم المادي، يفقد الإنسان شعوره التلقائي الجميل بفرحة الكسب المالي «الرزق» الذي يأتيه فجأة فيسعد به ولو كان قليلاً، وذلك أمام طغيان مفهوم «الدخل» الذي لا يثير في النفس ألقاً أو مرحاً مهما كانت قيمته. فالإنسان المعاصر صار يعلم مصادر دخله، ويدرك على نحو مسبق ومخطط، حجم عوائده القادمة التي لا يسعد بها إذا ما جاءته كاملة، لأنه كان عارفاً بها. ولأنه قام بتوظيفها فى دورة إنتاج أو استهلاك قبل أن تأتيه فعلياً، أو على الأقل خطط لكيفية توظيفها، ربما عبر الفيزا كارد، من دون أن يلمس الأوراق المالية نفسها. أما إذا أتته تلك العوائد ناقصة نسبياً عما توقعه فسيبدو مختنقاً تماماً، حتى ولو كانت قيمتها الاسمية بالملايين أو حتى البلايين. ويرجع ذلك إلى أنه لا يتفاعل مع القيمة الاسمية ذاتها كحصيلة تبدو له باردة بقدر ما هي متوقعة، ولكن مع حجم التغير في هذه الحصيلة صعوداً وهبوطاً، فهذا التغير وحده، هو الذي يبدو مثيراً لمشاعر الإنسان المعاصر، وهكذا تقل مشاعر الفرح مع موت فكرة الرزق بتلقائيتها المثيرة للمرح، وتزداد مشاعر القلق أمام مفهوم الدخل، بجموده الباعث على الضجر. والدافع الثاني هو تراجع مفهوم الأسرة، ومن ثم قيمة العاطفة، في مجتمعات المابعد التي لم تعد قائمة حتى على الأسرة النووية التي سادت المجتمعات الحديثة، بل على الأسرة الفردية، حيث تتوارى تدريجياً الرغبة في بناء أسرة من الأساس، وتزداد جاذبية الحياة الفردية لدى كثيرين، ومن ثم يسود نمط محايد للعلاقات الإنسانية، يكاد يخلو من الحميمية والترابط الوجداني، إلى درجة أفضت تقريباً إلى ذبول ظاهرة الحب الرومانسي، إحدى أنبل العواطف البشرية، بفعل اختفاء المسافات المكانية الفاصلة بين الناس في عالم متلاطم يكاد يسوده قانون الزحام، الذي يخرج منهم أسوأ ما فيهم، ويعطل لديهم أجمل ملكاتهم، إذ يعري الروح من خصوصيتها، ويهتك سترها، ما يفضي إلى ابتذالها، وتقويض عذريتها. فمع اختفاء المسافات المكانية، تكاد تختفي المسافات الروحية داخل الإنسان، والتي كانت تحقق لمشاعره خصوصيتها، وتضمن لها الاحتفاظ بطزاجتها ونضارتها، كونها منسوجة من الحياء والخفر وما يجلبانه من سحر غامض أو غموض ساحر، يزيد من تأجج تلك العاطفة الرقيقة بفعل الشوق إلى المحبوب، وما يحركه من توق إلى عالمه الخاص، ومن ثم الاعتياد عليه والتماهي فيه والذوبان داخله. ومع شيوع تلك العاطفة، غالباً ما تنمو أواصر مجتمع رحيم، أكثر ترابطاً وانسجاماً وأقل توتراً وصراعاً، فالمحب الصادق هو شخص قادر على التواصل مع الكون كله، وليس مع المحبوب فقط. لقد كانت هذه المسافة الروحية قائمة ومتوافرة في الأزمنة التقليدية، حيث الغموض الساحر، والشوق العذري يلفان العلاقة بين الرجل والمرأة، وينثران حولها القصص النبيلة. أما في الزمن الحديث، فظلت قائمة نوعاً، وإن شهدت تقلصاً بفعل نشوء المدن الكبرى، وتنامي المنتديات التي تجمع بين الجنسين في العمل والسفر والترفيه، إلى درجة صبغت العلاقة بينهما بميسم خاص، بدت فيه الجرأة أكثر سفوراً والسحر أقل حضوراً، فيما الغموض غائب تقريباً، وهي تركيبة أبقت للحب عالماً قائماً وإن لم يعد ساحراً. وأما مجتمعات المابعد، فقد حرمت تلك العاطفة من كل سحرها وغموضها، حيث أخذت المسافات تتضاءل واقعياً بفعل النمو السكاني والزحام الشديد، وتغيب افتراضياً بفعل ثورة الاتصالات وانفجار أدوات التواصل الاجتماعي، وما يصاحب ذلك من جرأة في التعبير عن العواطف، مع سطحية مفرطة في التعاطي معها. ومن ثم صارت القصص العاطفية قصيرة العمر وإن طالت، لا تنتج أثراً في الروح ولا تغييراً في معالم الطريق، على نحو ما كان مفترضاً من تلك العاطفة التي تمثل، حال صدقها، إعادة اكتشاف للذات الإنسانية، تكاد تقارب ما يقوم به الإيمان الديني، فالإيمان والحب يصدران عن نبع إنساني واحد، ويعكسان القوة الروحية نفسها، مع تغاير وحيد في ذات المحبوب الذي تتوجه إليه كل عاطفة... الذات الإلهية المطلقة والمتسامية في حال الإيمان، والذات الإنسانية العادية في حال الحب. أما الدافع الثالث فهو نفسي، يتمثل في ذبول الشخصية الفردية في خضم تفاعلات المجتمع الشبكي ما بعد الصناعي، ذي البنية المعقدة، فبينما تؤكد البطاقات الشخصية، والنظم القانونية الحديثة، والمواثيق الحقوقية العصرية، وحتى نظم الحكم الديموقراطية، تلك الشخصية، نجد أن العقلنة الشديدة والتنظيم المفرط والتكنولوجيا المتقدمة، تدفع نحو استلابها إلى درجة يتحول معها الإنسان إلى مجرد ذرة في تيار دافق لا سيطرة له على جريانه، أو ترس في آلة معقدة لا سلطان له على حركتها، ما يفقده الشعور العميق بالتكامل النفسي، والإرادة الحرة. كانت العلاقة التاريخية بين الإنسان والتكنولوجيا تجسدت تاريخياً في صورة الحرفي أو «الأسطي» التقليدي، القادر على تصور منتج يريد صناعته، ثم الشروع فى إنتاجه فعلياً من مواد خام ربما كان هو من صنعها بنفسه، ما يعني كونه الصانع الأوحد للمنتج النهائي، الذي يتشرب عرقه ويحمل شخصيته، ويتمتع بتفرده. ومع الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، بدرجات جد مختلفة، تحول هذا الصنايعي - الأسطي إلى مجرد عامل صغير في مصنع كبير، يقدم منتجاً نهائياً بكميات كبيرة متماثلة، وفق حاجة السوق الرأسمالية الواسعة. أما الثورة التكنولوجية الراهنة فأوجدت مستويات فائقة من الاعتماد المتبادل جعلت العملية الإنتاجية عابرة للمحيطات والبحار. وهكذا تحول العامل الصغير إلى مجرد ترس في آلة ضخمة، يقضي وقته كله أمام خط إنتاج كبير يشاركه فيه عمال آخرون، في إنتاج جزء أصغر من آخر صغير. وهنا لم يعد العامل صانعاً، بل أصبح مشاركاً صغيراً في إنتاج قطع نمطية ليست لها شخصية محددة أو ملامح مكتملة، حتى أنه قد لا يتمكن من رؤية المنتج النهائي الذي شارك فيه إلا عبر السوق أو ربما لا يراه نهائياً. وقد أدى ذلك إلى ذبول إحساس العامل بالغاية الإنسانية لجهده، والذي كان يتولد تلقائياً من العلاقة الحميمة بينه والمنتجات التي يصنعها، كما لو كان يصنعها لنفسه، قبل أن يعطيها للآخرين، ما يؤدي تدريجيا إلى ضمور حسه الأخلاقي، وتحوله إلى (إنسان وظيفي) لا يتساءل كثيراً عن الغايات النهائية للأشياء. فمقابل الحجم الصغير للشيء الذي يصنعه يتكرس لديه المعنى الجزئي. وكما أن الشيء المصنوع لا يكتمل أبداً أمامه، فإن المعاني الكبرى لا توجد قط لديه، فهي دوماً إما غائبة أو غائمة أمام معاني صغرى تلبي حاجات يومية أو لحظية، وهكذا لا يصبح هناك معنى جوهري للفضيلة، بل تصبح القيم نسبية تتصالح عادة مع التغير، وتنفلت أبداً من الثبات، وتتمرد دوماً على التسامي، خضوعاً لمنطق العادي ولهاثاً خلف الممكن. ولنضرب هنا مثلاً عملياً، يتعلق بصناعة الأسلحة النووية بكل تعقيدها التكنولوجي ووحشيتها الأخلاقية، حيث تمر دورة إنتاجها بمراحل طويلة، يشترك فيها باحثون وعلماء كثيرون، يقوم الواحد منهم بدوره في لحظة زمنية ما، تسبق أو تلي تلك اللحظات التي يقوم فيها الآخرون، شركاؤه في العمل النهائي، بأدوارهم المرسومة. هذا الفاصل الزمني قد يبلغ أعواماً بين التخطيط في البداية، والتجريب في النهاية. ناهيك بالفاصل المكاني، الفسيح أحياناً بين الشركاء، عبوراً للمدن وربما للدول، وأحياناً المحيطات والقارات. ومن ثم يتشارك الجميع في مراحل العمل من دون أن يتقابلوا وجهاً لوجه، وربما من دون أن يعرف أي منهم اسم الآخر أو جنسيته. كما أن كلاً منهم يقوم بعمله وهو إما غير مدرك لطبيعة المنتج النهائي «المروعة»، وإما غير مكترث به نظراً إلى ضآلة حجم الدور الذي يلعبه في تلك الصيرورة الممتدة، سواء لصغر حجم المكون الذي يقوم بصناعته، أو بفعل تباعد صورة هذا المكون عن صورة المنتج النهائي، فمع الصغر والتباعد يغيب الشعور الكلي بوحشية هذا المنتج، الذي قد يؤدي، بعد زمن قصير وبفعل ملابسات معينة، إلى إبادة البشر. وهكذا يتشارك كثيرون ربما كانوا من أفضل الناس علماً ودراية، وربما أخلاقية على المستوى الفردي، في ارتكاب جريمة كبرى من دون اتفاق بينهم، ومن دون مسؤولية مباشرة تقع على عاتق أي منهم، بفعل التمدد الشديد لعملية الإنتاج، والشيوع الكبير للمسؤولية الأخلاقية. وهكذا يبتعد الإنسان المعاصر أكثر وأكثر عن كونه ذاتاً مركبة، متعالية، تملك حق الشهادة على العالم، ليصبح أكثر خضوعاً للبيئة المحيطة، وأقل قدرة على المواجهة الفعالة لأشكال التسلط ومراكز الهيمنة التي استحالت بنية كاملة لها أذرعها العنكبوتية الممتدة في شتى المجالات، حتى أنه لم يعد يملك سوى أداء الوظيفة الموكلة إليه تحت إمرتها، ولم يعد لديه من حريات سوى حرية اختيار بديل من البدائل التي تفرضها عليه تلك المراكز، بعد الانغماس في حسابات مباشرة وسطحية تدور داخل إطار عملي لا علاقة له بالقيم السامية والغايات النهائية.