كانت احتفالات الحج المصرية في العصر المملوكي لحظة فريدة ومتجددة في حساب الأيام والشهور. وبقدر ما تحمله هذه العبارة من تناقض ظاهري، تنطوي على مقدار كبير من الحقيقة. إذ إن الحج لحظة زمنية فريدة، ولا يتشابه مع أي مناسبة دينية أخرى. كما أنه لحظة متكررة ويجيء كل سنة في موعد مختلف عن الموعد السابق والموعد اللاحق، ولكنه يجيء دائماً. والحج مناسبة مدهشة حقاً: فقد يأتي في قيظ الصيف، أو في برد الشتاء، أو في أيام الربيع والخريف. ففي كل الأحوال يفرح الناس به ويحتفلون بأيامه ولياليه المعروفة عند المماليك بأيام دوران المحمل التي كانت من أهم دلائل التواصل بين الحكام وأفراد المجتمع حينذاك. وقد تعلَّق الناس بهذه الاحتفالات وجعلوها من شعار السلطنة، بل جعلها بعض المؤرخين ميزة يتميز بها سلطان عن غيره بفضل فعله لدوران المحمل، فابن ظهيرة مثلاً جعل دوران المحمل مما اختصت به مصر والقاهرة وأهلها من محاسن وفضائل عن بقية بلاد الإسلام. ويشاركه في ذلك القلقشندي الذي جعل من احتفالات الحج ميزة يمتاز بها صاحب مصر على ملوك الأرض والمسلمين. فابن ظهيرة ميَّز بها أهل مصر، والقلقشندي ميَّز بها حكام مصر. ووفق كثير من الرحالة، فإن ليل مصر كان يتحول أيام دوران المحمل إلى نهار بفعل مئات المشاعل والفوانيس والشموع المقادة في الأسواق والحوانيت وفي أيدي الناس السائرين في الطرقات، ويبدأ من منتصف شهر رجب، ثم يتجدد في شهر شوال، وتحديداً يوم الاثنين أو الخميس من كل أسبوع. وكانت احتفالات الحج في العصر المملوكي، تبدأ بالطواف بكسوة الكعبة في أنحاء القاهرة ومرافقة الخواص وأرباب الدولة وذوي المناصب وغيرهم لها في دورانها في عهد بيبرس. إلا أن ذلك لم يلبث أن تغير، وشهد تطوراً سريعاً ومستمراً من سلطان إلى آخر، حتى وصلت الذروة في عهد الظاهر خشقدم. وتبدأ الاحتفالات عندما يأمر السلطان بأن يُنَادي في الناس بتزيين حوانيتهم ودورهم، استعداداً للمشاركة في دوران المحمل. ويغالي أصحاب الحوانيت والبيوت التي يمر بها المحمل في تزيينها، في مقابل العائد المادي الذي يعود عليهم من تأجير أسطحها للناس الذين كانوا يتنافسون على موضع قدم لمشاهدة الاحتفال. وكان الباعة الجائلون أيضاً يستعدون لدوران المحمل استعداداً كبيراً لما ترّد عليهم هذه المناسبة من أرباح، لأن الناس كانوا يبيتون خارج بيوتهم في انتظار المحمل، وكان لابد لهم من شراء طعامهم وشرابهم من السوق. ويستعد السلطان لإتمام هذه الاحتفالات في وقت مبكر يبدأ في جمادى الأولى أو الآخرة، حيث يعين في هذه الأوقات معلم المحمل وباشاته الأربعة الذين يقومون بمراسم الاحتفال، لأن سلاطين المماليك خصصوا مدرسة عالية لتعليم الطلاب «فن إدارة المحمل ولعب الرماحة»، سموها «معلمية المحمل»، يتولى نظارتها أحد المعلمين الكبار من ذوي الخبرة الفنية. وكان السلطان يطمئن بنفسه إلى تجهيزات الاحتفالات، وأهمها كسوة الكعبة. وإذا كان بيبرس هو أول من أشعل شرارة الاحتفالات في العصر المملوكي بدوران الكسوة الشريفة في أنحاء القاهرة، فإن قلاوون ما لبث أن زاد من هذه الشرارة وطورها، واستحدث لعب المماليك السلطانية أمام الكسوة بالرماح والسلاح. وبعد المناداة في الناس بتزيين الحوانيت والدور، التي يمر عليها المحمل، يأتي أهل الريف من كل مكان للفرجة على حرق النفط وعمل الصواريخ، ويجتهدون في اكتراء البيوت والحوانيت والأسطح في شكل كبير. وربما أمضوا ليلتهم في الطرق. حتى النساء يجلسن صدراً من النهار، ويبتن في الحوانيت حتى ينظرن المحمل من الغد، وعلى طول الطريق تحتشد الجموع لمشاهدة الموكب الذي يشق طريقه من باب النصر حتى ميدان الرميلة تحت القلعة. ثم يأتي الرماحة المختارون، وعددهم أربعون مملوكاً، والذين كان من الممكن أن يزيد السلطان عددهم، وكانوا يركبون خلف المحمل تماماً، وهم يرتدون الدروع المغطاة بالحرير الملون. على حين كانت خيولهم مكسوة بالحراب، تزينهم البيارق الخفاقة، ذات التطريز البديع، والتي كانت ترفرف دائماً في ميادين القتال. وفي أحيان أخرى، كان الفرسان يصاحبهم عدد قليل من صغار الصبية الذين يقفون فوق ظهور الخيل، وكل منهم يلعب بحربتين. كل هذا زاد من فرجة الطبقات الشعبية على المحمل المصري في العصر المملوكي، وصار متعة يتمتع بها الناس من مختلف قطاعاتها، بخاصة النساء اللائي كن يسرفن في انتظاره على أحر من الجمر، غير عابئات بما يكابدن في سبيله من امتهان، فشلت أمامه كل القوانين والإجراءات التي وضعها ولاة الأمور لمنعهن. ولم يدخر المماليك وسعاً في إخراج احتفال الحج في شكل يشد الانتباه، وظهر ذلك في ما عرف ب «عفاريت المحمل»، وهم جماعة من الأجناد يركبون خيولاً بالقلاقل والأجراس والشراشح، يزعجون الناس بقصد إضحاكهم، مع تعظيم السلطان، فضلاً عن الترغيب في أداء فريضة الحج. وحتى ينبهر الناس أكثر باحتفالات سلاطين المماليك للحج، اصطحب المماليك في موكب الدوران مختلف أنواع الخيول المدربة المطهّمة، حتى الأفيال الكبار كانت تخرج أمام المحمل وهي مزينة باللبوس، وعلى ظهورها الصناجق، وأمامها الطبول والزمور. وبعد الانتهاء من هذه الاحتفالات في رجب يحمل المحمل إلى جامع الحاكم بأمر الله. ويوضع في مكانه هناك إلى شوال، ثم يتكرر الدوران في النصف الثاني من شوال ويخرج إلى الريدانية للسفر ولا يتوجه إلى الفسطاط، ثم إلى بركة الحاج، وقد تغير هذا الأمر منذ سنة 860ه وصار المحمل يخرج بعد احتفالات شوال من الرميلة إلى بركة الحاج مباشرة في مسير واحد ولا ينزل بالريدانية. وعلى رغم ما شاب هذه الاحتفالات في بعض الأحيان من ظواهر سلبية، ينبغي الاعتراف ببعض آثارها الاجتماعية والاقتصادية والترويحية الإيجابية.