ما كان أجمل صوت فيروز يرتفع في باحة المتحف الوطني جامعاً تحت خيمته العالية أولئك الذين سمّوا أنفسهم «فيروزيين» تيمناً بمطربتهم الكبيرة التي ستظل رفيقتهم كما كانت دوماً، بصوتها الساحر وأغنياتها التي أبدعها الاخوان، عاصي ومنصور. كان اللقاء أمام المتحف الوطني - مثله مثل اللقاءات الأخرى التي شهدتها عواصم عربية عدّة - فرصة لرفع تحية الى هذه المطربة الكبيرة التي أصابت صحيفة «الغارديان» البريطانية أخيراً في تسميتها «الديفا الصامتة». كان اللقاء عفوياً تماماً، لم يُخطط له كثيراً ولم توجّه اليه دعوات. فهؤلاء «الفيروزيون» تنادوا اليه عبر الانترنت فقط ولم يشاؤوا أن يصنعوا منه حدثاً اعلامياً، لا سيّما أنهم أرادوه لقاء صامتاً لا يرتفع فيه إلا صوت فيروز. لكن الإعلام، المرئي والمسموع ما لبث أن جعل منه حدثاً كبيراً، فغصّت باحة المتحف بما لا يحصى من الكاميرات وسواها. وتذكر الكثيرون من المعتصمين أمام المتحف الذي كان بمثابة خط تماسّ طوال الحرب، كيف أن صوت فيروز كان وحده القادر على اجتياز هذا الخط وكلّ خطوط التماس الأخرى جامعاً اللبنانيين كلّهم على اختلاف هوياتهم. شاء هؤلاء «الفيروزيون» بعفوية تامة أن يكسروا صمت فيروز، هذا الصمت الملكي النبيل، وأن يدافعوا عنها إزاء الحملة التي قام بها ضدّها أولئك الذين باتوا معروفين، بل الذين بات واضحاً جداً ماذا يريدون بعد ان فضحت مآربهم وأدواتهم. التقى «الفيروزيون» واعترضوا ورفعوا شعاراتهم الراقية، أما فيروز فآثرت كعادتها أن تلزم الصمت وتبقى في الظل. فهؤلاء «الفيروزيون» الذين قرّروا خوض «القضية» هم الذين تحمّلوا عبء هذه المواجهة، بألفة وبساطة، مع أنهم يعلمون أنهم يواجهون «آلة» ضخمة لم توفّر طريقة أو أسلوباً في حربها ضدّ فيروز. هؤلاء المحبون لم تكن لهم مصلحة في وقوفهم الى جانب فيروز، مصلحتهم الوحيدة الدفاع عن صوتها، وكثيرون منهم لا يعرفون فيروز إلا عبر صوتها. إنها فيروزهم، نجمتهم الوحيدة، نجمة صباحاتهم ولياليهم، نجمة حبّهم وآمالهم أو ما تبقى منها في هذا الوطن. تؤثر فيروز الصمت دوماً، لكنّ «القضايا» هي التي تلاحقها حتى في عزلتها. فيروز تعلم جيداً أنها وجدت لتغنّي، وأن الغناء سرّ مُنح لها وأن صوتها وحده قادر أن يواجه «الغدر» أياً كان مصدره. إنها المنتصرة دوماً، لأنها المنزّهة دوماً، والمترفّعة التي لا تنزل الى درك خصومها أو أعدائها الذين لا تعرف لماذا هم أعداؤها أو لماذا أصبحوا هكذا. هذه المطربة التي لم تنكر يوماً ماضيها الشخصيّ البسيط ولا الطفولة الوديعة التي عاشتها وسط عائلة غير ميسورة، هذه المطربة التي تعلم جيداً معنى الألم والمعاناة والتي يشغلها البعد الإنساني في علاقتها بالعالم والحياة والبشر، هذه المطربة المفطورة على الجمال لا يمكنها أن تعادي أحداً ولا أن تؤذي أحداً، بل لعلها من فرط نقائها لا تعرف أن تؤذي أو تعادي. لكنّ قدرها هو أن تواجه العداء الذي يأتي غالباً من الخارج الذي ليس هو ببعيد. لا تحتاج فيروز فعلاً الى من يدافع عنها، صوتها وحده قادر أن يواجه أي حملة تقام ضدّها. وهذا ما يدركه خصومها بل أعداؤها المجبولون بالكراهية والحقد، وكذلك أحباؤها وعشاق صوتها وأغانيها. ومهما حاول هؤلاء الأعداء أن يجرّدوها من صفات وسمت بها، فهم الذين يخسأون دوماً، فلا أحد يصدّقهم ولا أحد يجهل غاياتهم المفضوحة أصلاً وكيف أنهم في اعلان حملتهم إنّما يسعون الى «تعويم» أسمائهم وما يدّعون أنه «فنهم». فيروز ليست مؤدية فقط، كما أشاعوا، فيروز ليست مطربة فقط أيضاً، إنها نجمة الفن الرحباني، إنها حجر الأساس الذي قامت عليه تجربة الأخوين العظيمين، عاصي ومنصور. كانت فيروز هي النبع الذي غرف منه الأخوان وكان فن الأخوين أيضاً النبع الذي استقت منه فيروز. هذا الثالوث لا يمكن المسّ به لأنه أقوى من أي ريح مهما حملت من سموم. هذا ما كان يعلمه عاصي وما كان يعلمه منصور حتى بعد وفاة عاصي. ولعلّ منصور، هذا الفنان الكبير، أدرك عظمة هذا الصوت وطابعه العجائبي أكثر فأكثر عندما وجد نفسه وحيداً أو فاقداً نصفه الآخر كما عبّر مراراً. وظلّ صوت فيروز يسكنه ويختلج في روحه حتى لحظته الأخيرة. وعندما راح يلحن لأصوات نسائية أخرى وفي ظنّه أنه سيتخطى «جدار» صوت فيروز، كان هذا الصوت الساحر هو النموذج الحاضر فيه والذي يلحن بحسب معاييره. لم يستطع منصور أن يتحرّر من صوت فيروز فنياً إلا في المرحلة الأخيرة عندما دخل عالم الايقاعات الجديدة التي تسربت اليه عبر ذائقة أبنائه. لم ينكر منصور يوماً عظمة صوت فيروز. هذا ما كان يعرفه أصدقاؤه. وفي فترة ما كنت واحداً من أصدقائه، أستمع اليه، أسأله ويجيبني بصراحة. ولطالما تهيأ لي أن صوت فيروز لا يغادره لحظة وأن «طيفها» يتراءى له حتى في مرحلة الافتراق. قبل أيام استطاعت ريما الرحباني، كريمة عاصي وفيروز، أن تحسم «القضية» المحتدمة إعلامياً وأبرزت العقد الذي وقّعه منصور الرحباني عام 1960 مع جمعية «الساسيم» وتنازل لها بموجبه عن كل حقوقه المادية، وخوّلها مهمة تحصيل هذه الحقوق. وهذه الجمعية التي تتولى توفير حقوق الموسيقيين والملحنين والشعراء لم تدع حقاً لمنصور يذهب هدراً. ولعلّ ابراز ريما لهذه الوثيقة استطاع أن يضع النقاط على الحروف ويثبت ان الحملة القائمة ضدّ فيروز ليست غايتها المطالبة بحقوق مادية - مسددة أصلاً ولا علاقة لفيروز بها - بل للاصطياد في الماء العكر، وهو اصطياد للأوهام لا أكثر.