يُعد كتاب «وصف أفريقيا» للحسن بن الوزان، المشهور بليو الأفريقي، من أفضل المؤلفات التي تعرضت لتاريخ مصر وجغرافيتها وحرفها وصناعها وعمالها خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، في الحقبة الحرجة التي توسطت سقوط الدولة المملوكية وقيام الدولة العثمانية في مصر. ولد ليو في غرناطة (ربما عام 1495 أو 1500م) قبيل استيلاء الإسبان عليها وانتقل للعيش في فاس وكلف من سلطانها محمد البرتقالي سفارة مرَّ بها على تمبكتو وممالك أفريقية عدة. كما زار مصر والقسطنطينية فضلاً عن أدائه الحج، ووقع أسيراً خلال توقف سفينته في جزيرة جربة، فقُدم كهدية إلى البابا ليون العاشر الذي حمله على اعتناق المسيحية والبقاء في روما لتدريس العربية. وهناك وضع مؤلفات عدة في اللغة والأدب والجغرافيا، أشهرها كتاب «وصف أفريقيا» الذي وضعه عقب زيارته مصر. ويبرز منهج ليو في النقل من تأكيده أنه لم يرصد سوى ما شاهده بنفسه، بينما حرص على الأخذ عن ثقاة أهل البلاد التي عجز عن زيارتها. شقَّ ليو طريقه من الإسكندرية عبر مدن وقرى عدة مثل رشيد وبرنبال وفوة وديروط والمحلة وغيرها إلى القاهرة، ومثلما وصفها، فإنه وصف القاهرةوالجيزة وبعض مدن الصعيد في مبانيها وشوارعها وسكانها وأحوال الزراع والصناع والتجار وأصحاب المهن الأخرى. وفي حديثه عن الزراعة، فإنه أشار إلى المحاصيل التي اشتهرت بها تلك البلدان، كحديثه عن زراعة قصب السكر والرز في جزيرة الذهب المقابلة لبلدة فوة، ولفتت انتباهه مزاولة أهل المحلة الزراعة، ثم عاد ليوضح ما يزرعونه بسبب صلاحية التربة المحيطة بالمحلة لزراعة القمح والكتان. وأشار إلى تخصص أهل ديروط في زراعة قصب السكر وصناعته، أما رشيد، فاشتهرت بزراعة الرز ولأجله تكثر مضارب الرز بها حيث «... يُقشر فيها ويُنقى في كل شهر أكثر من ثلاثة آلاف كيل مودجي من الرز...»، ويشاركهم في ذلك أهالي مدينة أنثيوس لأن «... باديتها غنية بالرز، ومن عادة أهلها حمله إلى القاهرة لتحصيل أرباح طائلة»، وفي حديثه عن مدينة برنبال فإنه أكد زراعة الرز فيها أيضاً وأن من يدرسونه أجانب من بلاد البربر من دون أن يوضح موطنهم، لكنه ربط بعد قليل بين البربر وتونس، وبالتالي فمن المرجح أنهم من تونس، وأكد أنهم يتقاضون أجراً أكثر من ثمن الرز نفسه. ويفهم من عدم إشارته إلى أي زراعة في القاهرة أنها اكتفت بالنشاط الصناعي والتجاري، ومنها انطلق لوصف حدائق النخيل وغيره في الجيزة، وأشار إلى عمال الزراعة من سكان القاهرة الذين يخرجون إليها صباحاً ويعودون إلى بيوتهم ليلاً لقرب المسافة. وحين انتقل إلى الصعيد، فإنه أشار إلى اشتهار بني سويف بزراعة الكتان والقنب، ووصف كتانها بأنه من الدرجة الأولى بحيث يُصدّر إلى تونس ويصنع منه نسيج عجيب في رقته ومتانته. أما وصفه الصناعات والصناع، فكثيراً ما يربط بينهما كأنه يجمع بين عمليهما أحياناً، وفي ذلك من المضامين التي تُوحي بقيام بعض الصناع والحرفيين بالتجارة في منتجاتهم في حدود معينة، كان ليو ذاته حريصاً على التنويه بها حين أشار إلى بعض الصناعات التي لا يقوى عليها سوى الموسرين وأصحاب الموارد المالية الواسعة. واستهل حديثه عن الصناع فور مروره بمدينة الإسكندرية بإشارته إلى طائفة من اليعاقبة الذين يعملون في الصناعة، ولمّح في إشارة غامضة إلى قوم يسكنون مدينة أنثيوس يشتغلون في كل الصناعات. كما أشار إلى النسَّاجين في المحلة، وإلى صناعة السكر في ديروط، «... وفي ديروط مصنع كبير جداً يشبه القصر توجد فيه المعاصر والمراجل لاستخراج السكر وطبخه، ولم أرَ قط مثل هذا العدد من العمال المستخدمين في هذه الصناعة، وسمعت من أحد موظفي الجماعة أنه ينفق يومياً نحو مئتي دينار أشرفي على هؤلاء العمال»، ويؤدي المصنع للسلطان نحو مئة ألف دينار ضريبة سنوية. وأشار ليو إلى صناع القاهرة في زقاق قريباً من باب زويلة الذي يسكنه كثرٌ من الصناع المصريين وغيرهم من الجنسيات الأخرى. كما يكثر الصناع في فندق خان الخليلي، بخاصة الفُرس، وكذا الحال في ربض باب اللوق الواقع على مسافة ميل من سور القاهرة، والذي يضم صناعاً وتجاراً من كل صنف. وقد أجمل ما يقوم به أهل القاهرة من صناعات بأن فيها ما يكفي من الصناع من مختلف الحرف، وأنهم يمارسون حرفهم من دون أن يتعرضوا للغربة خارج القاهرة ما يعني كثرة تلك الحرف في القاهرة ذاتها. وأشار أيضاً إلى الصناع في جرجا الذين يعملون في مختلف الحرف وقد بني لهم مكان خصص لهم حين خربت جرجا نتيجة الطاعون الذي فتك بغالبية السكان. أما عن الحِرف ذاتها التي زاولها هؤلاء الصناع فلم يستطرد ليو في تفصيل مهنهم وحرفهم رغم حرصه على وصفها بأنها مهن وحرف شريفة، بخاصة أنه اتخذ موقفاً رافضاً من العاهرات في مناسبات عدة، لأن السماح بوجودهن يُضعف من قدرة العمال والحرفيين الجسمانية على الإنتاج ويضيع أموال المهنيين حين ينفقونها عليهن. ويمكن إجمال تلك الحرف في الغزل والنسيج في الإسكندرية والمحلة والفيوم، وضرب الرز الذي أفاض في الحديث عنه في أكثر من مكان في الدلتا، علاوة على إنتاج العطور وماء الورد وتوليد الفراريج. واستطرد ليو في شرح كيفية عملية التوليد باستخدام التدفئة في أفران متعددة الطبقة لإنتاج الفراريج بكثرة ويؤدي المختصون بتوليد الفراريج إتاوة للسلطان، ناهيك عن معاصر الزيت في مدينة المعيصرة. وتُلمح في حديث ليو عن التجارة، خطوط عريضة فيها تفصيل أكثر من حديثه عن الزراعة والصناعة، بخاصة أنه تحدث عن التجارة في معرض حديثه عن المواد الزراعية والمنتجات الصناعية، وأورد تفصيلات جمة عن التجار والأسواق والدكاكين والفنادق والسلع والمنتجات ونوع البيع والتجارة المحلية والتجارة الخارجية، فأشار إلى وجود الأسواق في غالبية المدن والقرى التي مرَّ بها كالسوق الكبيرة العامرة بالتجار في رشيد، وسوق فوة الضيقة الأزقة، لكنها عامرة بالتجار والصناع والدكاكين الجميلة. وأشار إلى كثرة أسواق القاهرة، وأوضح حقيقة امتلاك كثير من سكان الطبقة الراقية في القاهرة دكاكينَ في باب زويلة حرصاً منهم على المشاركة في الثروة والمكسب. وتخصصت تلك الدكاكين ببيع أنواع معينة من البضائع، فمنها ما يبيع المياه المصنوعة من جميع أنواع الأزهار، وأخرى تالية لها تُباع فيها الحلويات المصنوعة من العسل والسكر والمعروضة بطريقة أفضل من طريقة عرضها في أوروبا بإقرار ليو، ثم تأتي دكاكين باعة الفاكهة المجلوبة من الشام، ودكاكين أخرى مبعثرة لبيع الفطائر والبيض المقلي والجبن المقلي. أما فنادق القماش، فأبنية ضخمة تضم دكاكين تخصص بعضها ببيع المنسوجات الأجنبية سواء البعلبكية الدقيقة أم القماش الموصلي الذي يفضله الأعيان والعامة لصلابته ودقته ومنه تصنع القمصان والغطاء والخمار الذي يعلو العمامة، وتليها الفنادق التي يُباع فيها أجمل الأقمشة الإيطالية، ويؤكد ليو أنه لم يرَ مثيلاً لتلك المنسوجات في إيطاليا على رغم صنعها فيها، أما فنادق الثياب فخصص بعضها للثياب الصوفية المستوردة من أنحاء أوروبا، كأجواخ البندقية وميورقة والمرش الإيطالية. وأشار ليو إلى فندق خان الخليلي ووصف ضخامته واتساعه وانتظام أدواره، وأكد أن التجار الموسرين وحدهم الذين يملكون مستودعات في هذا الفندق، وتشتمل سلعهم على التوابل والأحجار الكريمة ومنسوجات الهند كالكريب... إلخ، علاوة على بائعي العطور كالزباد والمسك وصمغ جاوة وغيرها، إضافة إلى باعة الورق والأحجار الكريمة، وأشار إلى حي الصاغة القريب من خان الخليلي وفيه تمرّ بين أيدي اليهود ثروات عظيمة. ولم يفت ليو الأفريقي الإشارة إلى حرف أخرى مهمة مثل تجار المواشي والطيور سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، إضافة إلى مطاعم تقديم الوجبات المنتشرة في أنحاء القاهرة وتظل مفتوحة طوال الليل، ويقبل عليها الأهالي لأنه يرى أن نساء القاهرة لا يجدن الطهو ولأجله يقوم الزوج بشراء الطعام من الطباخين بالخارج. وتحدث عن مهنة المكارية التي ازدهرت في القاهرة لأن سكانها كما يرى ليو لا يقبلون على السير لمسافات طويلة شأنهم شأن سكان المدن الكبرى ولأجل ذلك فقد ازدهرت مهنة اكتراء الحمير في القاهرة، وأشار إلى السقائين الذين يحملون قرَبَ الماء ويجولون بها في أحياء القاهرة لأن المدينة تبعد مسافة ميلين عن النيل، وقدر ليو عددهم في القاهرة بثلاثة آلاف سقاء. ورصد في مروره في ساحة الأزبكية بالقاهرة بعض المهن والحرف الأخرى، بخاصة المهرجين والبهلوانيين الذين يُرقصون الإبل والحمير والكلاب، علاوة على المغنين الشعبيين ولاعبي العصا والسيف وبعض المصارعين. ويُلحظ على ما وصف ليو للحرف والمهن والعمالة في مصر ما يأتي: حرص على رصد ما حوته الدكاكين والفنادق، بخاصة في القاهرة ونسبة منتجاتها إلى بلد المنشأ سواء كانت بضاعة داخلية أم مستوردة، وأكد دقة بعض المصنوعات المعروضة وزكاها على ما سواها في أوروبا. لم تفته الإشارة إلى الضرائب التي يدفعها الزراع والصناع والتجار وغيرهم إلى السلطان في القاهرة، وكان يصفها تارة بالإتاوة وأخرى على أهل الذمة بالجزية في لمحة ذكية من ليو إلى اعتماد الاقتصاد المصري في تلك الفترة الحرجة على الضرائب والجباية بنسبة كبيرة نتيجة لضعف موارد الدخل. ولم تفت ليو الإشارة إلى الباعة الجائلين الذين يبيعون سلعاً متنوعة كالفواكه والجبن واللحم النيئ والمطبوخ إلى غير ذلك من المواد الغذائية واستغرب من بيع الفراخ بالكيلو وليس بالواحدة. وفي إشارته إلى التجارة الخارجية فقد ورد لديه ضمناً أن كثيراً من المنسوجات والثياب والفاكهة واللحوم لها أصول شامية وأوروبية وسودانية، ما يعني نشاط حركة التجارة الخارجية في مصر مع بلدان شامية وأوروبية وأفريقية. وأشار إلى ظاهرة تكريم النابغين من الصناع وأصحاب المهن «وإذا اتفق أن أحد الصناع أنجز في حرفته عملاً جيداً مبتكراً لم يسبق أن شُوهِد له مثيل ألبسوه سترة من ديباج وطافوا به من دكان إلى دكان مصحوباً بالموسيقيين في شبه جولة المنتصرين، وأعطاه كل واحد شيئاً من المال».