تشي الإجراءات التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري الفاشل بأن البلاد باتت أمام هيكلة جديدة لبنية النظام عسكرياً وأمنياً وسياسياً، فضلاً عن تغيرات محتملة في السياسة الخارجية لا سيما تجاه الأزمة السورية والعلاقة مع الولاياتالمتحدةوروسيا وإيران، إذ أظهر الموقف من الإنقلاب الفاشل توتراً في العلاقة التركية - الأميركية في مقابل رغبة سياسية كبيرة في تطوير العلاقة مع روسيا. ولعل من أبرز التحولات المرتقبة في ظل الإجراءات الجارية ما يأتي: 1 – إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية عبر إخضاعها مباشرة وفي شكل كامل لسلطة أردوغان وحزب العدالة والتنمية. وتأخذ الهيكلة شكل القيام بحملة إقصاء كاملة للقيادات العسكرية التي لا توالي سياسة حزب العدالة والتنمية تحت اسم الانتماء لجماعة فتح الله غولن. ولعل الهدف الأساسي من هذه الحملة وضع نهاية للمهمة الأساسية للجيش التركي تاريخياً، أي الحفاظ على الأسس العلمانية للجمهورية التركية، وهذا يتطلب السماح لخريجي الكليات الدينية بتولي المناصب القيادية في الجيش بعدما كان ذلك ممنوعا طوال العقود الماضية. 2- تعزيز دور مؤسسة الأمن وقوات الشرطة على حساب الجيش، بخاصة بعدما تصدت هذه القوات للإنقلابيين، وهذا إجراء يتطلب إخراج الجيش من المدن وتكليف قوات الشرطة والأمن حفظ الأمن فيها، وهو ما يعني تعزيز دور وزارة الداخلية على حساب هيئة الأركان العامة التي كانت لها الكلمة العليا في أمن البلاد. 3 – إعادة هيكلة المؤسسة القضائية التي كانت من أهم المؤسسات بعد الجيش تتعرض لحملات إقالات وإقصاء، ولعل الهدف من هذا الأجراء هو تأمين الغطاء القانوني لإجراءات حكومة حزب العدالة والتنمية في سعيها الى إعادة تأسيس بنية النظام السياسي، عبر اتخاذ خطوات متسلسلة في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع، تهيئة للانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الذي يسعى إليه أردوغان. وهذا الانتقال يتطلب تفكيك المعارضة السياسية ووضعها في ظروف تجبرها على التجاوب مع سعي حزب العدالة والتنمية للانتقال إلى النظام الرئاسي. 4 - الحذر على مسار القضية الكردية بسبب مرحلة التوتر الداخلي عقب فشل الإنقلاب، إذ إن تصريحات القادة الأتراك تبدو قليلة وغامضة بهذا الخصوص في أيامنا هذه، وهي تراوح بين تأكيد الاستمرار في نهج الحرب المعلنة ضد حزب العمال الكردستاني ومحاولة استكشاف العمل السياسي من خلال خطوات قد تهيئ للعودة إلى مفاوضات السلام. ولعل ما يجعل الحذر سيد الموقف، هو موقف حزب الشعوب الديموقراطي الرافض لسياسة أردوغان بقدر رفضه للإنقلاب العسكري الفاشل، فيما لا يستبعد الأكراد من أن يكون سبب الغموض التركي الحالي أو التريث التركي، هو الاستعداد لسيناريو التصعيد ريثما تتم إعادة ترتيب البيت الداخلي، بخاصة في ظل المخاوف القائمة من تفكك المؤسسة العسكرية بحيث يكون الحزب الكردستاني الرابح الأكبر من أمر كهذا. 5 – سيؤدي انشغال تركيا بترتيب بيتها الداخلي إلى الإنكفاء عن القضايا الإقليمية لا سيما الأزمة السورية. ولعل ما يشجع أنقرة على انتهاج سلوك الإنكفاء عن الأزمة السورية هو الحوار الروسي – التركي الساعي إلى تحقيق تفاهمات باتت عناوينها معروفة للجميع، وهي إغلاق الحدود ووقف دعم المجموعات المسلحة، بما يعني الإنسحاب الميداني من الأزمة السورية. وإذا كان هذا المسار سيعزز العلاقات الروسية – التركية التي تحركها المصالح الاقتصادية المشتركة إلى حد كبير، فإنه في المقابل تشهد العلاقات التركية مع كل من الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تراجعاً وتوتراً، على خلفية اتهام أنقرة لواشنطن بتأمين الحماية للداعية فتح الله غولن الذي يتهمه أردوغان بالوقوف وراء الإنقلاب الفاشل، فضلاً عن انتقاد تركيا للموقفين الاميركي والأوروبي من الإنقلاب، وانتقادهما الغرب الإجراءات التركية عقب الإنقلاب كونها بدأت تأخذ شكل انقلاب مضاد ضد كل من لا يوافق على سياسة أردوغان. وفي المجمل، فإن من شأن التحولات الجارية التأثير على علاقة تركيا بالحلف الأطلسي لا سيما بخصوص القواعد الأطلسية الموجودة داخل الأراضي التركية وتحديداً قاعدة انجرليك التي تتمركز فيها قوات عدد من دول الحلف. يمكن القول ختاماً، إن التحولات التركية تشي بتسريع هيمنة حزب العدالة والتنمية على كل مفاصل الدولة لا سيما المؤسسة العسكرية في الداخل، وفي الخارج بإعادة تموضع العلاقات التركية على شكل انفتاح أكبر تجاه روسيا وإيران مقابل تزايد حدة الخلافات مع الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد الأوروبي. * كاتب سوري