تمكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أن يضبط إيقاع واستثمار محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت مساء الجمعة الماضي وصبيحة السبت الموافق 16 و17 يوليو الجاري. وهذا استثمار يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات التركية الداخلية بين النظام السياسي الحاكم الذي يقوده حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002، وبين القوى السياسية والمؤسسات العاملة في البلاد وعلى رأسها الجيش الذي يعتبر حارس العلمانية الأتاتوركية التي يسعى أردوغان للإجهاز عليها. ولم يتردد بعد 3 أيام من محاولة الانقلاب الفاشلة عن إعلان حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر، ستمكنه من الإجهاز على ما تبقى من ظواهر العلمانية التي حكمت الجمهورية الأتاتوركية منذ العام 1924، بعد عام من إعلان مصطفى أتاتورك إنهاء الخلافة العثمانية وإسدال الستار التي حكمت تركيا ودولا عربية كثيرة ودول البلقان ل 5 قرون. أردوغان الذي دعا لتحول تركيا نحو النظام الرئاسي بعيد انتخابه رئيسا مباشرة من الناخبين كأول رئيس ينتخب بهذه الطريقة، لم يفوت الفرصة وباشر بتطهير القطاعات الرئيسة من الخصوم المعلومين والمحتملين وعلى رأسهم جماعة أحمد فتح الله غولن المتهم الأول بمحاولة الانقلاب الذي يعيش في الولاياتالمتحدة وتطالب حكومة حزب العدالة بتسليمه إلى أنقرة. أولى نتائج محاولة الانقلاب الفاشلة اعتقال نحو 10 آلاف ضابط وجندي من الجيش ونحو 7500 من منتسبي الأجهزة الأمنية ومئات القضاة ومثلهم من الأكاديميين في الجامعات والمدارس. وعدم التردد في إعلان حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر حتى تكمل الحكومة مهمتها في إقصاء الانقلابيين وتعبيد الطريق نحو النظام الرئاسي الذي يحلم ويعمل عليه بجهد الرئيس أردوغان. لقد حاول أردوغان عدة مرات إقناع الجيش برغبته في التحول إلى النظام الرئاسي، لكن الجيش وقف بالمرصاد المشكك لمحاولة الرئيس. أما وقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب، ليباشر العصر الأردوغاني الجديد حتى وإن لم يتم التصويت على الدستور بعد للتحول إلى النظام الرئاسي على أنقاض النظام البرلماني الذي يلفظ أنفاسه منذ فشل المحاولة الانقلابية. صحيح أن الرئيس أنهى مرحلة من التجاذبات داخل حزب العدالة إزاء التحول نحو النظام الرئاسي بعد تمكنه من فرض الاستقالة على رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، ليأتي مساعد أردوغان منذ كان رئيسا لبلدية أسطنبول أواخر تسعينيات القرن الماضي بن علي إيدرليم ليخلفه ويلبي المتطلبات التي اشترطها أردوغان لرئاسة الحزب الحاكم، إلا أن مسألة التحول للنظام الرئاسي تتطلب تغييرا دستوريا واضحا وجليا، رغم تصرف الرئيس على أن هذا النظام قد بدأ تنفيذه. فترة الطوارئ هذه سوف يستفيد منها الرئيس ليطهر ما تبقى من الجماعات الموالية لأحمد فتح الله غولن ومن الجيش وقوى الأمن الداخلي، ما يعني أن مرحلة جديدة قد دخلتها تركيا بكل قوة وسوف يستمر الحزب الحاكم في تطهير كل من يقف ضد طموحات التحول للنظام الرئاسي. وهذه مهمة ليست بالسهلة رغم الانتصار على الانقلابيين والانتقام منهم. ما يمكن قوله في هذا الظرف التركي العصيب، إن ثمة انتصارا لا يمكن التفريط فيه. ربما يفسر ذلك ما جرى في تركيا خلال الأيام القليلة الماضية التي أعقبت المحاولة الفاشلة للانقلاب. لكن التوجه الأردوغاني بدأ يواجه بمواقف داخلية وخارجية ضد الانتقام من الخصوم. بالمناسبة، يواجه الرئيس أردوغان منافسين من داخل الحزب الذي أسسه مطلع الألفية الثالثة، وخصوما من الأحزاب المعارضة التي شجبت ورفضت المحاولة الانقلابية لكنها لم تقدم شيكا على بياض لتطهير المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والأكاديمية تحت تهمة انتماء كل هؤلاء إلى جماعة أحمد فتح الله غولن. تركيا اليوم ليست تركيا قبيل المحاولة الانقلابية. فما جرى سيفرض إعادة النظر في الوضع الداخلي المضطرب، والوضع الخارجي الذي يحتاج إلى مهندس من طراز أحمد داوود أوغلو مهندس العلاقات الخارجية وأحد الأعمدة الرئيسة في حزب العدالة والتنمية. المؤكد أن تركيا تتجه سريعا للنظام الرئاسي على أنقاض النظام البرلماني الذي حكم تركيا منذ قرابة قرن بعد انهيار الدولة العثمانية، الذي قاد أحد أعمدة الحزب الحاكم إلى مغادرة الساحة السياسية بعد أن فرض الرئيس شروطه على الجميع. السؤال الأبرز يقفز مع احتدام المعارك في سوريا من جهة وتدفق اللاجئين السوريين على تركيا ودول الجوار الأخرى من جهة أخرى. فالوضع الداخلي ليس سهلا بعد القضاء على محاولة الانقلاب الفاشلة، ولكنه أيضا ليس مستحيلا الوصول إلى حلول تُهدئ من غضب المعارضة السياسية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري. نجح أردوغان في مواجهة الانقلاب الفاشل، فهل يتمكن من هزيمة خصومه الذين لا يريدون له أن يكون قيصرا في قصره، بل يبحثون عن عناصر العدالة الاجتماعية والمساواة وعدم الانتقام من الأحزاب السياسية المعارضة. فهل يفعلها أردوغان وهو ينتشي بالنصر على الجميع: منافسوه من داخل حزبه، وخصومه في الداخل التركي وخارجه، حيث تتمتع تركيا بوضع مميز يؤهلها للقيام بمهام جديدة تجذب الجمهور المتعطش إلى كل شيء حتى وإن كان ضد العدالة والتنمية، ليس حبا فيهم، بل عقابا للنخب السياسية الفاشلة.