في مجموعتها الجديدة «أجمع نفسي وحسب» (دار مخطوطات، 2016)، تبحث الشاعرة اللبنانية زينة عازار عن قارئ مراوغ في لغة متأنية في رصد مفرداتها. فتبدو تلك المفردات كأنها تجيء من طريق عجن الدلالات المتجذرة في النص بالحواس، وهي تتقطع وتتشكل إذا ما قدر للأصوات أن تأخذ أشكالاً معينة. فكأنّ همّْ اللغة أن تقتصد في إعادة تعريف الذات ومدى التصاقها بالعالم عبر سلطة الخيال، حيث يمكن استرجاعه بالكلمات. طقوسية عازار اللغوية ليست إلا تعبيراً عن ذلك التعريف القائم على كتابة الشعر بحمولاته اللفظية الحارة لذاته، في محاورات لصيقة أقرب ما تكون الى بعث تعريف للغة من حيث تجدّدها وانبعاثها من داخل النص، مثل حريق صامت متجدّد، وفي كل كتلة لهب منبعثة منه قراءة أو موقف من هذا العالم. وكأنها يجب أن تكتب شيئاً عنه «كي لا تبدو الحياة معطّلة» تماماً، أو في طريق للوقوع في هذا الفخ. للوهلة الأولى، تبدو الذات هنا في مواجهة متجددة مع هذه النصوص من طريق إشارات الحواس. لا تبتعد من تعميق جوانيتها بفرادة من خلال استعارات مكتملة، أو شارفت على الاكتمال في لحظات تدرك فيها الشاعرة أنها لا تنهك النص حين يدور لذاته. العالم هنا أقل انطواء في تحديث مفرداته، لكنه أكثر اقتراباً من حرارة هذه التحولات. الصورة التي لا تشبه أحداً مثل إعادة إحياء موقف من اللغة حتى لو اكتملت في تحييد قناعها الداخي. «إن لم أجد صورة ملائمة في هذا اليوم، سوف أقطع غصناً من هنا وورقة من هناك». هذا القطع يبدو ضرورياً من جهة استئناف تفاصيل الحياة والرموز التي تحفل بها، وتنبعث منها حين تتحول الى فيض استعارات مكتملة، ولولا ذلك لقلنا إن زينة عازار تعي في مفرداتها كل هذا الشجن الأنسي الذي تمجد به الذات في مواجهة عالم مراوغ يمقت اللغة التي لا تنصاع له وتنصب الفخاخ في طريق مستهلكيها. أليست الشعرية هي انبعاث تلك النار من جسد النص حتى لو ظهرت على شيء من البرود في منحنيات كثيرة، لكنها تعي جيداً أنها تطاول بدفئها ونورها العميق المقيم في الذات التي لا تنشغل كثيراً في مواجهة العالم إلا من طريق البوح في اللغة كل وجه مكتسٍ ببرودة، وكأن هذه المراوغة في الدلالات لا تنبعث إلا من مخيلة لا يقيم فيها سوى لهيب الاستعارات التي تتدافع وتتزاحم في طريق النص الكامل؟: «لا تجد لغة لترميم هذا الليل/ عند الرابعة فجراً ينبت عشب من كفك في محاولة لقول شيء بسيط/ ويضاف إليك شيء من الخفوت». تدرك زينة عازار أنها تعطي لنصوصها أبعاداً جمالية تجعلها تتفلت من حصار اللغة حين تقسو بمفردات تقلل من شعرية الشكل الفني التي تحدد حرية النص في سبك المعاني وإطلاق شرط المخيلة فيها، ولولا ذلك لبدت هذه المواجهات مع اللغة أقل حدة مما يجب. كم يبدو معذباً هذا الأرق اللغوي الذي تسير على هديه قصائد الشاعرة. حتى في تشكيله الفني الجمالي المكثف يبدو المضمار الذي يحميه مؤلف من أصوات عدة، وكأن الخلاء هو ما يجمع في وضوحها ولا يفرق في غموضها. بهذا المعنى ينحاز ديوان «أجمع نفسي وحسب» الى ذلك الانشطار في الإشارات الى الذات وهي تعيد إنتاج قراءة تأويلية لكل ما يدور في ثنايا النصوص في مواجهاتها المحتملة مع عالم مفكك وقاس وشرس: «كل ما يمكنني رؤيته بالنظرة المجردة، يحدث الآن في النقصان». ثمة هنا ما يسبغ نعمة على التناغم بين كل تلك التفاصيل غير المرئية التي تحدثنا عنها، وبين الذات الشعرية «المحاربة» والعدم الذي تتسامى فيه، وكل تلك المخيلة المدربة على اقتناص كل ما هو شعري فيها. في هذا الديوان، تضعنا صاحبة «غيمة للتوازن» (2014) أمام امتحان اللغة أو في شركها. لا تهتم بتلك الأجزاء المروعة التي قد تنتج من هذا التجميع والتحشيد للصور والأجزاء الخاصة بالجسد الإنساني الملتاع من طريق مخيلة مطواعة بالمعاني، وفي الوقت عينه تقدم له إمكانات الانسجام مع حالات تشبه تبخر الجسد الإنساني في أحلى لحظات تأمله من شقوق كامنة في الحياة ذاتها قبل أن «تتعطل» وتشي بكل ما هو مغاير حين يُراد لها أن تكون حياة عادية، محض عادية غير محصنة بالوضوح الكافي، حتى يعاد ترميمها بالكامل من طريق الشعر. «سيطير عصفور أحيانا ويرفُّ في صدري، أحيانا فقط/ ما كان يجب أي خوف، أي تظاهر من كل هذا/ على الجدار، ستظل السماء على حالها، غير مصابة بأذى/ أنا والهاوية خارج هذا الإطار».