أين تُمكِن موقعة تجربة نبيل لحلو السينمائية؟ المخرج الذي منح التيار «الثقافي» السينمائي في مغرب البدايات السينمائية جزءاً مهماً من سمته، والذي كان أحد الأسماء التي جعلت الفن السينمائي بمغرب عقدي السبعينيات والثمانينيات، يتحرك عبر إخراج عدد من الأفلام المتلاحقة الظهور زمنياً، كان هو أيضاً المخرج الذي اختلفت الآراء حول أفلامه، وكيفية تلقي ما تعرضه، ما بين رافض وقابل. مهما يكن الموقف من لحلو من المؤكد أنه لا يمكن تجاهل فرادته الفنية، في أفلام تتميز بحس المغامرة الفنية والجرأة في اختلاق تصور مخالف للإبداع السينمائي السائد. تصور ديدنه التجريب شكلاً ومضموناً، ومرتكزٌ على تجربة مسرحية غنية سابقة كتابة وتشخيصاً وإخراجاً متأثرة بالمسرح الفرنسي الكلاسيكي. سينما لحلو تأسست وفق تطبيق يكون فيه المخرج هو السيناريست والممثل الرئيسي والمبدع الكلي تقريباً. وكلها عوامل تجعل أعمال نبيل لحلو السينمائية أعمال الشخص الواحد. وذلك بجعلها، فوق هذا وذاك، مطية لممارسة السينما من حيث هي وسيلة فنية أولاً، ثم للتعبير عن أراء وأفكار، واتخاد مواقف من الراهن الثقافي والاجتماعي والسياسي المغربي والعربي، ولا يهم حينها أن يتوفق من جهة القيمة الفنية والموضوعاتية، وأن يؤثر في المشاهد. هي سينما فنان له حضور للذات في كل ما يبدع. فترة التأسيس أعلن نبيل لحلو هذا التوجه منذ عمله الأول في منتصف السبعينيات، والذي خرج فجأة عن المألوف السينمائي المغربي العام بتعمد الإبهام والترميم علانية، والتجزيء السيناريستي المكرس الذي لا يتبع سرداً خطياً بليداً. وعبر هذا التصور، بدا في أفلامه يصول ويجول كلاماً وحركة في شكل مسرحي تلعب فيه الصورة الخلفية المتحركة دور المساند بأثاثها ومحمولها الديكوري وأضوائها وعنصرها الصوتي. وهذا المنحى البيّن جعل سينما نبيل لحلو تنحاز في مضمونها جهة التركيب غير المألوف للأحداث، وتبعاً لمنطق السخرية العابثة في مقاربة المواضيع الجدية التي تتناول في الغالب ما هو سياسي. سخرية عنوانها التلاعب المفكَّر فيه بدءاً من عناوين الأفلام التي تلفت النظر إليها بتخيرها لقاموس كلمات نادرة، ومروراً بقصص غريبة، لتنتهي بخلاصات ذات أبعاد أخلاقية مثيرة. وهكذا أخرج لحلو سنة 1978 فيلمه الأول «القنفودي»، الذي يحكي قصة رجل يحلم بربح ورقة يانصيب كي يصير مليونيراً ويحقق ما يتمناه. فيلم ساخر ومُمَسرح كما أشرنا إلى ذلك في شكل كبير، لكنه يتضمن اختراقات سينمائية لافتة، وأبرزها يجمله مشهد خارجي لنبيل لحلو البطل مرتدياً قميصاً طولياً تقليدياً وهو يعدو في الحديقة المجاورة للبرلمان المغربي والجموع حوله تشجع وتطلب منه صارخة «والقنفودي أعطينا مليون على ربي». والحقيقة أن العودة اليوم الى مشاهدة أمر كهذا قد تجعل الكثيرين يغيرون من أحكامهم السلبية السابقة حول تجربة نبيل السينمائية. بعد ذلك وفي ذات سياق التجريب دائماً، أخرج نبيل لحلو فيلم «الحاكم العام لجزيرة الشاكر باكر بن» (1980) وفيه يتحدث عن عامل في مطبعة نحا به حلم العدالة والنزاهة نحو جنون إبداعي يتجلى في ممارسات تحار بين الواقعي المحض والفانتازي الساخر. وفي خلاله يتم فضح التواطؤات بين مالكي المال وزعماء السياسة والنقابات والإعلام. ومن مشاهده الشهيرة ارتداء نبيل لحلو زي راقصات الباليه وامتطاؤه فرساً، وهو يحاور فتاة بزي تقليدي ممتطية فرساً هي بدورها، في حوار خارج من ريبرتوار المغامرات المسرحية، لكنه مقدَّم رمزياً كي يتمكن البطل من البوح بالمكنون هرباً من الرقابة. هكذا في كل شريط يجرب المخرج، ويختلق مشاهد من مخيلة مسرحية ملتهبة تجد في السينما مجال انفتاح أكبر. ففي شريطه الثالث اختار عنواناً مثيراً كالعادة هو «نهيق الروح» (1983)، واختار لغة فرنسية فصيحة. ويتناول الفيلم حكاية من فترة تاريخية قريبة لها علاقة بفترة الاستعمار. ومعروف أن إعادة مجال مكاني ماض ليست بالأمر الهيّن، لكن المخرج لا يرعوي لأمر كهذا. المهم لديه هو وضع البطل الذي يمتهن حرفة جامع قمامة في إطار حكائي مميز يفضح أثرياء الخيانة والمتعاونين مع المحتل. فضح لا يستثني أحداً. فقد أدخل المخرج «شخصية» حمار البطل والذي سيشكو بدوره ألمه إلى جمعية الرفق بالحيوان في تواز قد نقول أنه كان جريئاً في سينما ناشئة لم تكن قد أتقنت بعد أدوات التسنيم الأساسية. تجديد لغة الحوار سنة 1984 طلع المخرج على الجمهور السينمائي بشريط «ابراهيم ياش» الذي أسندت فيه البطولة للممثل الكبير الراحل العربي الدغمي في دور على المقاس. وقد أتقن وتوفق في تشخيص لم يكن سهلاً. بخاصة أن الشريط ناطق باللغة العربية الفصيحة، في تجديد طيب للغة الحوار في زمن لم يكن مرشحاً لتقبل فيلم من هذه النوعية، لكن المخرج لم يفعل كي يؤسس تياراً فصيحاً، بل أملته عليه ضرورة تعميق الغرابة والعجائبي. فالدور هو لموظف بسيط يصارع البيرقراطية الإدارية والتسلط والتجاهل من أجل التمكن من الحصول على معاشه الشهري الذي تأخر تسديده لمدة شهور بسبب عرقلات تافهة تتعملق في دواليب نظام تسلط معقد ببلاهة. وفي الفيلم سخرية لاذعة من الرؤساء. فالرئيس يظهر في الشريط محمولاً في قفة سوق من طرف أعوان بنظارات سوداء. وهنا ترميز قوي لا يخفى على أحد. واستمراراً في التجريب قدم نبيل لحلو سنة 1988 شريطه «كوماني»، لكن هذه المرة بتوظيف اللغة الفرنسية مرة أخرى في جلّ الفيلم. «كوماني» يندرج في خانة مغايرة لكنها أقل مما شوهد في الأفلام المذكورة آنفاً. فقد أكد وكثف من اتجاه السخرية والمناورة الفنية التي تمزج دوماً بين المسرحة والتسنيم، مع إعادة لما سبقت رؤيته وتجديد من عل في وظائف الشخصيات، ومن بينها رئيس بكل الزي العسكري وحاشيته ثم كاتب سيناريو في المقابل، وشخصية نسوية تتبادل أدواراً مسرحية وأخرى سينمائية. والكل في غمرة التفكير حول التسلط والإبداع في أجواء متغيرة. فمثلاً تجرى وقائع معينة في سفينة مع كل ما يستتبع ذاك مما يفرضه المكان على سير السرد فوق الماء، إن صح التعبير. ولأن نبيل لحلو مخرج لا يدع الأمور تهدأ، فقد حفر أكثر تصوره للإبداع السينمائي بتنويعه لنهجه الساخر السريالي منذ بداية التسعينيات إلى حد الساعة. مع ملاحظة أن أفلامه الأخيرة باتت أكثر ارتباطاً بمواضيع رأي عام. وتزامن ذلك مع تميز الإنتاج السينمائي المغربي بالتراكم، ما جعل عمله يمر بدون كثير اهتمام، رغم توافره على مواصفات تجعله مختلفاً عن باقي الأفلام المغربية. وهكذا أخرج «ليلة القتل» سنة 1992، ويتطرق للشطط في استعمال السلطة ويحفل بالدفاع عن حقوق المرأة. ثم أخرج بعد فترة زمنية طويلة فيلم «سنوات المنفى» سنة 2002 عن رواية الكاتب إدريس الشرايبي «تحقيق في البلد» وفيه مواقف عبثية كثيرة. ثم شريط «ثابث أم غير ثابث» سنة 2005، وفيه توظيف لقضية عميد شرطة المرتبطة، وكانت مثار ضجة إعلامية كبيرة، وأثارت رجة اجتماعية كبرى. وفي سنة 2012 أخرج شريط «شوف الملك في القمر»، في إشارة إلى ما كان يردده الناس في فترة مقاومة المستعمر من ظهور وجه الملك محمد الخامس في القمر. وهو فيلم مَوْقَع أحداثَه حول قصة شاب تعرض للتعذيب بسبب آرائه وبسبب علاقة مشبوهة مع شخص اسمه وليام شكسبير، فقرر إخراج فيلم ذهنيّ يروي فيه حكاية ما تمور به دواخله المعذبة. في الشريط توظيف لكل أسس سينما المخرج بعد أن اختمرت بمرور السنين. طوال مساره لم يكن نبيل لحلو سينمائيّاً يغير مساره الفني. هو الذي عبر هذا العدد المهم من الأفلام الطويلة استطاع أن يحافظ على النهج ذاته الموصوف بالفنتازي العجائبي المتناغم مع تصوّر للفن والإبداع يجد منشأه في الدرامي المسرحي، ليس شكلاً فقط، بل مضموناً كذلك. المسرح الذي يتناول قضايا يتوسطها الصراع الإنساني. هي سينما مغايرة حتماً، وسيكون من المحبذ إعادة مشاهدتها، بخاصة في مرحلتها الأولى.