من بين دموعه المتدفقة بدأ (ع. القحطاني) سرد قصته المؤلمة، ليعيد إلى أذهاننا روايات الجدات، وتغريبات الأوائل السابقين المؤثرة التي تقصُّ كيف تجمع كفُّ القدر شتات المتفرقين، وكيف تؤاسي الأيام في العواقب جراح الغربة والشتات.نشأ (ع. القحطاني) يتيماً، لا يعرف شيئاً عن والدته، تتلقفه النظرات ذات اليمين وذات الشمال، يرى الأطفال تحفُّهم أمهاتهم بالعطف والحنان، فيكبر في عينه السؤال: أين أمي؟ ثم ينطق به فلا يجد من يمنحه الإجابة القاطعة، هل هو ابن من دون أم؟ هل فارقت أمه الدنيا؟ هل سافرت؟ هل هي على قيد الحياة؟ ويكبر القحطاني ويشب ويشتد عوده، بين إخوته، ويوافي الموت والده قبل أن يجد منه جواباً شافياً، وقبل أن يروي ظمأ الاستفسار المتقد في جوفه، لكن ليست هذه نهاية القصة، بل هي البداية فحسب. وكما تُروى أحداث قصة أسطورية حزينة، يستأنف القحطاني (تحتفظ «الحياة» ببياناته الكاملة) من واقعه الشجي: «والدي رحمه الله تزوج أمي منذ 33 سنة، وبعدما منّ الله عليهما بالطفل (أنا) حصلت بينهما مشكلات، وكانت البيئة صغيرة والظروف صعبة، ثم سُفرت والدتي عن طريق الجهات الرسمية آنذاك، وكان عمري سنة واحدة كما ذَكر لي أهلي». وعاش الطفل اليتيم حياته متنقلاً، لا يعلم أن والدته على قيد الحياة، إذ أخبره بعضهم أنها متوفاة، وتضاربت أخبارهم عنها بعد ذلك، فذكر قائلون إنها في الحد الجنوبي أو من القبائل الموجودة داخل المملكة أو خارجها، وقال آخرون غير ذلك. وتمضي السنوات، وليس ثمة من يهتم، والابن يتنقل في البداية بين إخوته، حتى حانت لحظة انطلاق البحث عن أمه. يقول: «قبل خمس سنوات حصلت لي رؤيا منام أزعجتني بتكرارها، كنت أرى غيمة سوداء فيها وردة تكاد تفتح وفيها احمرار شديد، ورأيت أهلي وخاصتي وأبناء عمومتي يتضورون جوعاً، في بيت ليس فيه أحد وفيه مخزن للأغذية، فقفزت، وأخرجت لهم زاداً، ففرحوا». ويتابع: «تكررت هذه الرؤيا علي مراراً وتكراراً، فذهبت للشيخ محمد الشنقيطي أسأله عنها، وفي المرة الثانية كنت معه في السيارة ومعنا صديق، فأنزل صاحبنا وأركبني مكانه وقال لي: اتقِ الله أنت فاقد أحد والديك». منذ هذه اللحظة بدأ القحطاني في التفكير الجاد، لكنه عانى من نقص المعلومات بسبب وفاة والده، لكنه تجلد للبحث، وقضى سنة كاملة يبحث عن اسم والدته الذي يعرفه، ثم اكتشف أنه خاطئ عن طريق أحد معارفه. يقول: «استمريت وأنا في حيرة من أمري، لم أخبر أحداً من قرابتي أنني أبحث عنها لأنه كان يخصني شخصياً، ولا أحد يتطرق إليها، وبعد سنة جاءتني رؤيا ثانية أفزعتني، فكلمت الشنقيطي وسردتها عليه: رأيت أني في سطح البيت وأن فقاعات صابون تظهر من الأرض وتعلو للسماء وكأن في المنطقة الشرقية دخان أو غاز منطلق والناس في ذعر. ففرح، وأخبرني بأن هذه الملائكة، وقال: أبشر بالخير، تأويلي لك أن المعاناة والعذاب سينتهيان، وسيتحسن مستواك المادي، ورمضان قرة عينك بالحصول على والدتك إن شاء الله». وبدأت مرحلة جديدة من البحث، فأرسل مراسيل كثيرة للمنطقة الجنوبية وسأل الناس في مناطق الجنوب، إذ يكثر التهريب. يقول: «قبل رمضان منَّ الله علي باتصال هاتفي دولي لم أعرفه وإذا بشخص يكلمني: «أنت فلان ابن فلان الفلاني»؟ فأجبته «نعم»، ثم كلمني شخص آخر وسألني عن اسمي، وأخبرني أنه من أخوالي، وإذا امرأة تكلمني ولا أعلم أنها والدتي إلا بعد الحديث وقالت: يا ولدي يا ولدي، وألهمني الله فأخذت أسألها، فأخبرتني بأبي، وسألتها عن أسرتي وعن تفاصيل حياتها وتأكدت من المعلومات، وعلمت أن والدتيح، وتعيش في منطقة ذمار في اليمن، وأدركت أن الله منَّ علينا باللقيا في الدنيا، بعد 31 عاماً عشتها من غير والدتي». انطلق ع. القحطاني على بساط الفرح مباشرة إلى اليمن، واقترض مبالغ مالية وحجز طائرة وزار اليمن في أول طائرة، ولم يخبر والدته ولا أخواله، وعلى رغم صعوبات اعترضت طريقه - إذ أصابه تسمم فور وصوله اليمن - فإنه أصر وذهب إلى منطقة ذمار ليلقى والدته المفقودة هنالك. يقول: «كان يوم جمعة، وألتقاني زوج والدتي اليمني، ولما نزلنا من السيارة طلبت منه ألا يخبرهم، فلما فُتح الباب وجدت حياتهم صعبة، والبيوت يضرب بها المثل في الفقر، وصعدت على الدرج في بيت شعبي قديم متهالك وإذا امرأة تصيح وبجوارها امرأة أخرى، وقد سبق لي أن رأيت هذا المشهد في المنام وأخبرت والدتي بذلك بعد لقائها». ويضيف: «وجدتها في حالة صحية سيئة، ووجدت بعض إخواني يعانون من إعاقات وهي لا تملك إلا لباساً واحداً يكسو جسدها، ومنذ ذلك الحين بدأتُ محاولة لم شملنا، فتقدمت إلى الجهات الرسمية بمعرفة أحد الإخوة، وطلبت تصحيح وضع والدتي، وأتيت بها العام الماضي وقضت فريضة حجها، وأرجعتها إلى اليمن، وما أزال أتمنى أن يمنَّ الله علينا بلم شملنا بصورة نهائية، إذ إنني لم أستطع أن أؤمن لها المسكن بسبب ظروفي المادية والاجتماعية، إذ ما أزال أعزب، ولم أستقر في منزل يخصني، ولكنني ما زلت أزورها كلما تيسر ذلك وأساعدها بما يصل إلي من دخل يسير، إلى أن يأتي الفرج إن شاء الله، وأستقر أنا وإياها وإخوتي المعاقون تحت سقف واحد».