العدد الجديد من مجلة «رحاب المعرفة» التي أسسها قبل ثلاثة عشر عاماً الشاعر التونسي الراحل جعفر ماجد، أشرفت على إصداره هيئة تحرير جديدة وبدا مختلفاً عن الأعداد السابقة، إذ سعى إلى الانفتاح على أفق إبداعي وفكري جديد، والإفصاح عما يعتملُ من أفكار وتجارب في بيئة ثقافية متحولة. من هذا المنطلق، اختارت المجلة، في ثوبها الجديد، أن تتسع لكل الفنون من أدب وعمارة وفنون تشكيلية وموسيقى من دون أن تلغى الدراسات الأكاديمية الجادة: «كما يطلب البحث العلمي المعرفة، في تقصيه للحقيقة، يطمح الفن إليها بشتى إبداعاته تعبيراً عن نزوع الإنسان إلى فهم الواقع متوسلاً بأدوات العقل والحدس، بالسؤال العلمي وبالمجاز الشعري»... من مواد هذا العدد شهادة الشاعرة آمال موسى: «الحداثة في الشعر: مصادقة الذات»، وفيها تولت الانعطاف على القصيدة النسائية الحديثة بالنظر والتأمل، مشيرة إلى أن هذه القصيدة: «استأنفت الشعر بطريقة جديدة لا حضور فيها إلا للذات الشاعرة»... فالمبدعة الحديثة باتت توظف أقصى إمكانات اللغة متوغلة في عوالم الرمز لتفصح عن الوعي الفردي والجماعي في آن، مضيفة: «إن الحفر في قيمة الذات والإقامة في نقطة المركز في العالم الشعري سيحولان المرأة إلى فاعلة في اللغة وبالتالي إلى فاعلة في الواقع، من خلال كسر الطوق عن المسكوت عنه ورفع الحجاب عن وجهها وعن روحها وعن ذاتها لتتحرك إنسانة حرة لا تفوتها إلا العصافير حرية». أما الروائي صلاح الدين بوجاه، فأبرز من خلال دراسته الموسومة «القدامة والحداثة في مدونة الشابي» وجوه الجدة في شعر أبي القاسم، مؤكداً أن شعره ينطوي على رؤية عميقة موصولة بتصور حديث للفن والإنسان، تتخطى مجرد لعبة الإبداع الشعري لتضرب بسهم في فضاء الحداثة الشاملة غير المنفصلة عن الفكر والجمال والإبداع والحقيقة». فشعر الشابي يحتضن «كوسموغونيا» كاملة يتجاذب في إطارها العالمان الأصغر والأكبر، إننا إزاء دنيا خاصة بالشاعر تتداخل في إطارها المسموعات والمنظورات، وتترافد المتباعدات وتجلو العتمة، فتغدو رمزاً للنور والبقاء». واهتم الباحث الأخضر نصيري بالهندسة في الجنوب التونسي وبالتحديد في مدينة توزر، وعدّد، على وجه الخصوص، الطرائق المعمارية التي توسل بها الأسلاف ليحولوا رياح السموم إلى نسمات باردة وبرودة الشتاء القارسة إلى «جو دافئ»... قد تبدو المنازل «بدائية» في شكلها لكنها، كما يلاحظ الباحث، نتاج خبرة قديمة، فهي مدروسة، بحسب عبارته، من كل النواحي وتتلاءم ومتغيرات الطقس. ثم يختتم الباحث مقالته بالوقوف على البناء الحديث الذي أخذ يزحف على الصحراء، ملاحظاً أن التجربة قد أثبتت أن هذا البناء «لا علاقة له بثقافة أهل الجنوب... وهو غير وظيفي لشدة حرارته صيفاً من جهة، وشدة برودته شتاءً من جهة أخرى». بسبب من هذا عَمََدَ هؤلاء إلى بناءِ بيت آخر إلى جانب «الفيلا»، يستعيدون فيه تقاليدهم المعمارية «الحانية». أما الشاعر علي اللواتي فاهتم بتجربة الزبير التركي الفنية. فهذا الفنان كان، في نظر اللواتي من الفنانين التونسيين القلائل الذين وَعَوا مبكراً اختلاف التراث التشكيلي العربي الإسلامي عن المنظومة الشكلية الغربية وحدسوا بما يلائم نزوعهم الوراثي إلى التبسيط والحرية في ما تعلموه من المناهج الغربية فأخذوه وتركوا معالجة الحيز على الطريقة الأكاديمية وفق قواعد المنظور المأثورة عن عصر النهضة. وبعد قراءة متأنية لجوانب من تجربة التركي يلتفت اللواتي إلى حياة الفنان الخاصة بين إخوانه وأصفيائه الذين عرفوه من أمثال علي اللواتي والمنصف السويسي ورجاء فرحات والفاضل الجزيري وعبدالوهاب الدخلي. وعمد الناقد محمد صالح بن عمر الى قراءة قصتين تاريخيتين للبشير خريف مفككاً عناصرهما، وحفر في طبقاتهما ليستنتج بعد تحليل متأن أن هذا الكاتب «لم يوظف التاريخ للأغراض المتداولة في هذا الباب وهي استخلاص عبر من الماضي، أو الاستمتاع باستعادة فترات مشرقة ولّت وإنما اتخذ التاريخ مطية لمعالجة قضايا إنسانية كونية له منها مواقف شخصية وللتعبير عن تصوره الخاص للزمن». وضم العدد دراسات لمحمد الغزي والحبيب بيدة ومصطفى الكيلاني وروضة الجملي واحتوى على قصيديتين الأولى للمنصف الوهايبي عنوانها «تحت مظلة سركون بولص» والثانية لعادل النقاطي عنوانها «أغنية إلى صدانا»...