على رغم أن الباحث الدكتور ماجد المرسال بدأ نشاطه الفكري متطوعاً، إلا أنه لكثرة ما يتردد من تهمٍ «مجاملة السلطة»، عند الحديث عن مواضيع الغلو والعنف، لدى بعض طلبة العلم، احتاج إلى طرح تساؤلات، يستبق بها، من يحاولون إسقاط الأفكار قبل مناقشتها بدعوى اتحادها مع نهج السلطة، في كتابه «النذير»، الذي خص «الحياة» بنشره حصرياً! وأشار إلى أنه لاحظ فترة انشغاله بمكافحة الفكر التكفيري، أنه يتبادر إلى ذهن بعض الناس «أن النقد لأخطاء أولئك الأشخاص أو تلك الجماعات في بعض الجوانب العلمية أو العملية إنما هو انحياز للأنظمة والحكومات بغير حق، ومداهنة لها، ويخوضون في النوايا والمرادات القلبية التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، وهو ما يصرف بعض أولئك عن النظر في حقيقة ذلك النقد، والتأمل في أدلته، وتهيئة النفس لقبوله متى ما ظهر صوابه، وهي تهم تأتي تصريحاً تارة، وتلميحاً أخرى». وأكد أن دور العلماء إن كان الاعتذار عن «الأنظمة» بغير وجه حق، إلا أن وظيفتهم كذلك «ليست القيام بالثورات العسكرية والعمليات الانتحارية وإثارة الفتن والقلاقل وإثارة الرعب في نفوس الناس والتخطيط السري للانقلابات وزعزعة الأمن ونشر الفوضى». في ما يأتي نصها، على شكل حوار، كما أطلقها. ألا توجد أخطاء ومخالفات وذنوب حقيقية للحكومات والأنظمة القائمة في العالم الإسلامي أم أن الأخطاء والمخالفات فقط هي أخطاء الشباب المسلم وأخطاء الجماعات الإسلامية؟ - لا شك في وجود الأخطاء والذنوب الكبيرة والصغيرة من الحكومات، وإذا كان الفرد بطبيعته خطاء أي كثير الأخطاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فالحكومات وهي مؤسسات تتضمن مئات الأفراد لا شك أن أخطاءها ستكون أكثر وأظهر، هذا إذا افترضنا حسن النية - وهو الأصل - في جميع الأفراد القائمين على تلك الحكومات، فكيف إذا وجد فيها من ليس كذلك وهذا لا يخل منه عصر من العصور. ثم إن الحكومات ليست على مستوى واحد من إقامة العدل ورعاية الشريعة ، وهي تختلف كاختلاف الأفراد أنفسهم، فليس من جعل دستوره الشريعة الإسلامية ومنهجه المحافظة على شعائر الدين كمن قصر فيها أو أقصاها! ثم إن معالجة هذه الانحرافات إنما تكون وفق منهج الأنبياء في الدعوة والإصلاح، كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) هود88، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد عاش الأنبياء عليهم السلام في مجتمعات شركية فسلكوا سبل الإصلاح من أبوابها بالدعوة والتعليم والتبليغ والنصح كما قال تعالى عن صالح عليه السلام: (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) الأعراف79، فإن استجابوا فذلك غاية ما ينشده المصلحون وإن لم يستجيبوا فقد برئت ذمة الناصح وليعلم أنما يتبعون أهواءهم كما قال تعالى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص50، وما عليه أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولن تغلب مشيئته مشيئة الله إذا شاء ألا يهتدوا. إن سلوك منهج التغيير بالعنف والتخريب وسفك الدماء والخروج على الجماعة والطاعة وإثارة الفتن ليس من منهج الإصلاح في شيء وإفساده أكثر من إصلاحه، ووقوع أصحابه في أنواع من الظلم معظم من إقامتهم للعدل الذي ينشدونه، فضلاً أن كثيراً من هذه الثورات مصيرها المحتوم هو الفشل كما هو معلوم وواقع. أما الجزء الثاني من السؤال فكما أن الحكومات ليست منزهة عن الخطأ وليست معصومة منه وليست على درجة واحدة في أخطائها، فكذلك الشباب والجماعات الإسلامية ليسوا منزهين عن الخطأ ولا معصومين من الوقوع فيه، وليست أخطاؤهم على درجة واحدة أيضاً، ولا ينبغي للمسلم أن يبرئ نفسه ويتهم الآخرين والله تعالى يقول: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) ويثبت لنا التاريخ وتؤكد لنا التجارب والأحداث القديمة والجديدة أن الانحراف عن منهج الأنبياء عليهم السلام في الإصلاح والتغيير والاشتغال عنه بالتفكير والتدبير للقفز إلى زمام السلطات بعيداً عن تعبيد الناس لرب العلمين لا يحقق إصلاحاً ولا يثمر تمكينا وإنما يثير الفتن ويكبد الناس الخسائر في دينهم ودنياهم ويزيد من الشر والفساد. هل وظيفة العلماء هي الاعتذار للحكومات والأنظمة القائمة؟ - وظيفة العلماء هي تعليم الناس الخير، وعلى رأسه توحيد الله تعالى وتحذيرهم من الشر وعلى رأسه الشرك به تعالى، ودعوتهم إلى الفضيلة واتباع المرسلين، وليست وظيفة العلماء القيام بالثورات العسكرية والعمليات الانتحارية وإثارة الفتن والقلاقل وإثارة الرعب في نفوس الناس والتخطيط السري للانقلابات وزعزعة الأمن ونشر الفوضى. إن العلماء هم ورثة الرسل والأنبياء لا يسألون الناس أجراً ولا يحسدونهم على دنيا وإنما هم دعاة هدى ومصابيح دجى يسعون في تعليم الناس الخير وينهونهم عن الشر وما يريدون إلا الإصلاح للأفراد والمجتمعات والدول وليس صحيحاً أنهم يعتذرون لأخطاء الحكومات أو لأخطاء الأفراد والجماعات بغير حق، وإنما يصدقون مع الجميع وينصحون للجميع حكاماً ومحكومين لأن منهجهم يقوم على الإصلاح والنصيحة كما جاء في الحديث: (الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم). والتاريخ زاخر بمواقف العلماء الناصحين والأئمة الصادقين قديماً وحديثاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح في ذلك للعامة والخاصة بالأسلوب المناسب والطرق الصحيحة من دون أن يخرجوا بذلك عن حدود الشرع فيثيروا الفتن ويوقظوها في الناس. وكما أن الأخطاء والمخالفات والذنوب يناصح أصحابها النصيحة العامة والخاصة بالأسلوب المناسب بحسب المقام بما يحقق المصالح ويقلل المفاسد فكذلك يناصح ويحتسب على من أخطأ في المعالجة وخالف الشريعة في الاحتساب، لأن ذلك انحراف عن الصواب وداخل في عداد المنكرات كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. وإذا بذل المسلم ما عليه في حدود استطاعته ونصح للآخرين فلا عليه إن لم يقوموا بوظيفتهم وواجباتهم سواء كانوا من الحكام أم من سائر الناس ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة، ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير، لم يكلف ما عجز عنه). هل انحصرت جميع أسباب الغلو في مخالفات الشباب والشبهات الشرعية لديهم ألا يوجد أسباب أخرى دفعت بعض الشباب إلى الغلو غير الشبهات الشرعية ؟ - لا، لم تنحصر جميع أسباب الغلو في مخالفات بعض الشباب وليس السبب الوحيد في غلو بعض الشباب هي الشبهات الشرعية، بل أسباب الغلو كثيرة جداً منها أسباب مباشرة ورئيسية، ومنها أسباب غير مباشرة وثانوية، فهناك الأسباب التربوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، لكن لا شك أن الشبهات الشرعية لها أثر في نسبة ذلك الغلو للسبب الديني، لعدم تصريح من يتبنى العنف بالأسباب الأخرى مع وجودها بلا شك، والجواب المقنع عن الشبهات التي يحتج بها الغلاة أمر واجب في دعوة أصحابها للرجوع إلى الحق والتصحيح، وفي تحصين الشباب من تلقف هذه الشبهات والاغترار بها، وكذلك هو دفاع عن دين الإسلام أن ينسب إليه ما ليس منه فيستغل أعداء الإسلام هذه المخالفات في تشويه صورة الإسلام نفسه كما هو حاصل في كثير من وسائل الإعلام. ولا يجوز بحال أن يسوغ التكفير والتدمير بذريعة وجود تقصير في بعض الجوانب الاجتماعية أو الاقتصادية فلا علاقة بين هذا وهذا، فالتقصير يعالج بالنصح والتوجيه والإصلاح بوسائله الشرعية وهل يرضى عاقل أن يدمر بيته ويحرق بسبب وجود بعض جوانب القصور فيه، والبيعة الشرعية لولاة الأمر بالسمع والطاعة ليست مقيدة أو معلقة بعدم وجود تقصير في جانب من الجوانب بل تكاثرت النصوص في وجوب السمع والطاعة وإن حصلت الأثرة ووقع شيء من الظلم والنقص في حقوق الناس تقديماً للمصلحة العامة - في استقرار حياة الناس وإغلاق أبواب الفتن - على المصلحة الخاصة.