تمازج ضباب جبلي كثيف مع ضوء قمر باهت، اتكأ على كتف جبل شوفي كثيف الأشجار. حمل الهواء الساكن برداً. وبدت بلدة «بيت الدين» وكأنها تشارك في تجهيز المسرح. وبضربة رعد مفاجئة مع صوت مطر ورياح، اهتّزت لها بعض أجساد الجمهور، ابتدأ عرض بالية معاصر يروي إحدى قصص السحر الأكثر شهرة، هي «بياض الثلج». وهجر الباليه ورقصاته النسق المعروف لهذه القصة الفائضة بالسحر، ليقدّم رؤية معاصرة ترتكز الى تحليل نفسي معمّق. ففي الشكل التقليدي، تروي القصة صراعاً بين زوجة الأب الشريرة والساحرة، مع البنت الكاعب «بياض الثلج» التي يغيظ جمالها المتفتح تدريجاً المرأة التي تفترض في نفسها أنها مركز الأنوثة والفتنة والسحر. في عين التحليل النفسي، هناك بُعد جنسي قوي في قصة الأطفال «بياض الثلج». هناك الصراع بين امرأتين على امتلاك الجسد الأجمل والأشهى والأشد أسراً للذكور. حتى في شكلها التقليدي «الطفولي»، ينتهي الصراع بمشهد جنسي (قبلة الحبيب التي تنتشل «بياض الثلج» من غيبوبة السحر)، يليه مشهد أكثر إضماراً للجنس هو الزواج الذي يكرس أن الطفلة الكاعب أضحت أنثى تتملك ذكراً. وفي عين التحليل النفسي، يمكن اختصار قصة «بياض الثلج» إلى تملّك المراهقة لمسار بلوغها وأنوثتها، في صراع مع أنثى منافسة ممتلئة شراً وغيظاً من الأنثى- المنافسة، التي تريد إزاحتها عن عرش الأنوثة ومضمراتها ومكوّناتها. واستطراداً، فمن بداهات مدرسة التحليل النفسي تناول المضمر جنسياً في العلاقة بين الأب والابنة، ويُشار إليها ب «عقدة إلكترا»، التي تشابه وتعاكس العلاقة المضمرة بين الابن والأم المعروفة ب «عقدة أوديب». وفي كلا العلاقتين، هناك أيضاً علاقة الفرد مع السلطة أيضاً، إذ يتصادم الابن مع الأب كرمز للسلطة، وكذا تفعل البنت، وإن بصورة أشد رهافة وخفاء. وتُكثّف المسرحية الإغريقية «أوديب ملكاً» لسوفوكليس (ترجمها الى العربية طه حسين) هذه الأمور، في بعديها الجنسي والسلطوي. وفي مهرجان «بيت الدين»، لم يتأخر المخرج الفرنسي أنجلين برليوستش (من أصول ألبانية) في نظم رؤيته عن «بياض الثلج»، سيراً على نسق التحليل النفسي لها، خصوصاً لجهة صراعي الجنس والسلطة، مع تركيز أكبر على الجنس. إذ تفتح الباليه على ولادة «بياض الثلج» وموت أمها في القصر والتقاط أبيها للمولودة، في مشهد يذكّر بولادة أوديب ورميه في الصحراء والتقاطه من حاشية تحمله الى القصر. وفي دورتي رقص سريعتين، نصل الى «بياض الثلج» الشابة اليافعة، بجسد يفيض أنوثة. ثم تجلس على العرش (= السلطة) إلى جانب أبيها، في إزاحة رمزية واضحة لموقع الزوجة، ولكنها تخالس اللمسات بيديها شاباً وسيماً. وفي ظل رقص بهيج، يهدي الشاب وشاحاً أحمر، للحبيبة. ولا يكتمل اللقاء الإنساني. وتظهر زوجة الأب (وهو سيد القصر أيضاً)، فتمزج الحضور القمعي للسلطة، مع الصراع على الأنوثة والجسد. وترافق قطط تلك المرأة التي تمارس سحراً شريراً، مع كل ما تحمله القطط من دلالات جنسانية، ومع ظهور السحر بوصفه تمازجاً للشر في الكون والفساد في الإنسان. هناك نوعان من الجنس يتصارعان: أحدهما يحمل الإنسان على التكامل مع ذاته وكينونته ووجوده ويتمازج مع الحب؛ والآخر جنس ممزوج بشهوة التسلّط والقتل، ما يجعله نقيضاً للحب الإنساني. وبعروض أدتها أجساد 26 راقصاً وراقصة، جاء بالية «بياض الثلج» في نسق من الرقص المعاصر، مع شيء من الكلاسيكية (الأصح أنها تمثّل الطريقة الرومانسية) في الأداء. وهكذا، تنوّعت الملابس الى حدّ الفردية، حتى عندما تتقلص الأردية ويُحمل الرقص على الجرأة في أداء الأجساد. واستطراداً، فلربما يصعب على كثير من الدول العربية استضافة هذه الجرأة القوية في الرقص، والتي لا تعتبر غريبة عن مخرج فرنسي تتلمذ في نيويورك على يد أستاذين في الرقص المعاصر هما ميرس كوننغهام وزينا رومييه. وتألّقت براعة الكوريوغرافيا في تقديم مشهد حوار الزوجة- الشريرة مع مرآتها. إذ تلاعب المخرج على الظلام والإضاءة الباهتة، مع استخدام إطار فارغ، كي يقدم صورة المرآة ومشاهدها. تألق الكوريوغرافيا وإرباكها بعد تمهيد رسم إطار صراع الجنس والسلطة على الجسد الأنثوي وتفتحاته وحبه الإنساني. فتلاقي «بياض الثلج» حبيبها في حب معلن على الجماعة، يدخل بالفتاة الى علاقات الشباب أيضاً. ويصبح لقاء الأجساد تعبيراً قوياً عن العواطف الإنسانية الراقية والدافئة. وتحتضن الطبيعة تلك اللقاءات المشغوفة بالحرية والتطلّق من القيود والتحرر من السلطات. وأظهر الباليه شفافية التلاقي الإنساني، في رقص جريء ومتمكن في استعمال الأجساد لغة للرواية المسرحية، فلا يعود عريها إثارة ولا استثارة، بل حديثاً مسرحياً ينوب عن الكلام. إنه رقص يروي ويرتقي. بعد مشاهد الحب في الطبيعة، تسير دراماتوجيا «بياض الثلج» لتلاقي الأحداث المعروفة في القصة التقليدية. ويبدو النصف الثاني من باليه فرقة برليوستش (على اسم المخرج)، وكأنه يلاقي الصيغة الشائعة التي صاغها الإخوة غرايم عن مرويات شفاهية ألمانية في عام 1912، والتي حوّلتها هوليوود الى شريط سينما للمخرج والت ديزني في 1937. لكن السياق الذي أرساه النصف الأول، بمشاهد مبتكرة للمخرج برليوستش تعطي للأحداث سياقاً ودلالة مغايرين. إذ ترسل الساحرة الشريرة صيادين، في ملابس تذكر بالعسكر والميليشيات، كي يقتلوا الصبية. وتحمي الطبيعة، في ترسيمة مألوفة في الثقافة الرومانسية، الصبية وحبها وجسدها. ويخيب حاملي أسلحة السلطة في قتل الحب والأنثى. وهكذا، فتح برليوستش مشهداً معروفاً في القصة التقليدية (الصياد الذي تطلب منه الشريرة قتل الصبية)، على سياق مغاير يحمل صراع الفرد من أجل امتلاكه جسده وعواطفه وحريته. وعلى غراره، يأتي مشهد لقاء الفتاة مع الرجال السبعة الذين يعملون في المناجم. لم يعد يهم إن كانوا أقزاماً أم لا، بل باتوا أقرب الى مشهد الناس العاديين والعاملين بكد، بعيداً من السلطة وسطواتها. وتلاحق السلطة- الشريرة، بنفسها هذه المرّة، الفتاة التي باتت محتضنة من الشعب. وتنجح في إدخال السمّ إلى جسدها. ويجري ذلك في مشهد رقص تفيض الكوريوغرافيا فيه بقوة التجاذب والصراع، إلى حد أن تلقي السمّ جاء أقرب الى معنى الإخضاع. إنه تقاطع هائل بين قوة الكوريوغرافيا الواسعة الخيال والتدبير، وبين دراماتوجيا المسرحية، في اللحظة الأشد تمثيلاً لمعنى الصراع على الجنس والحرية. ويأتي الحبيب. ويأتي لقاء الأجساد وقبلاته، ليحارب يأس الغيبوبة التي حملتها تفاحة حمراء مسمومة. وتنهض الحبيبة من غيبوبتها. ينجح الحب والجنس في رد تغريب الجسد عن حريته واستلاب السلطة لإنسانية البشر. وعلى رغم تلك القوة، بدا خيط السلطة وكأنه أفلت من يد المخرج، قبيل ختام المسرحية، على رغم استمراره في إمساك خيط الجنس. وحتى مشهد قتل الزوجة الشريرة، جاء قريباً من مشاهد إحراق الساحرات (التي تذكر بمحاكم التفتيش وقمعها)، ما أوقع مشهد الختام في بعض الإرباك، على رغم قوة الأداء رقصاً وجسداً، وكذلك على رغم التألّق في اختتام الشق الجنسي من الصراع الضخم الذي رواه الرقص في باليه «بياض الثلج».