يلفتُ عبدالجواد ياسين في مقاربته حول السلطة في الإسلام إلى أنّ ظروف النشأة السياسية الأولى التي فرضت تعددية السلفيات الإسلامية (سنّة، شيعة، إباضية)، ظلّت توجّه نشاط هذه السلفيات في شكل أساسيّ وجهة داخلية، كلّ في مواجهة الأخرى. ولذلك لم تكن أطروحاتها النظرية مؤسسة من حيث الموضوع لمواجهة الأنظمة الدينية أو الإيديولوجية أو الحضارية خارج الإسلام. فلم تدخل في مواجهة جدية مع الفكر اليهودي أو المسيحي أو الفلسفة اليونانية. أي أنّ الفكر الإسلامي في عمومه، منذ حقب التأسيس الأولى وحتى العصور الحديثة لم تكن له مشكلة نظرية جادة مع الخارج (غير الإسلامي)، فلم يواجه أزمة قبول أو مشكلة «حداثة» مع العصر، ولم يعانِ من عقدة نقص أو تنافر حضاريّ أمام نموذج ثقافي بعينه، بالمعنى الذي يعرفه اليوم مع العصر الحديث وأمام النموذج الغربي. أيّ أنّ ياسين يشير إلى أن أزمة الفكر الإسلامي ذاتية (مع ذاته)، بغض النظر عن وجود نموذج آخر جذاب من عدمه، والطرف الذي يواجهه الفكر الإسلامي هنا هو الزمان المتغيّر/ التاريخ، والعصر المتطور، وحدّة الطبع السلفيّ في نسيج الفكر الإسلامي تجعل تحدي الحداثة أكثر وقعاً في الحالة الإسلامية المعاصرة. وعليه يميّز ياسين بين مشكلتين: مشكلة الحداثة، أي مشكلة العقل المسلم مع تركيبته الذاتية، ومشكلة الغرب، وهي مشكلة ترجع الى أسباب تاريخية تتعلق بالعوامل النفسية التي أخذت في التراكم منذ خروج المسلمين من إسبانيا، وبعد الحروب الصليبية، وحروب الأتراك «الإسلامية» في أوروبا، وزادت من تفاقمها حالة الانكسار السياسي والحضاري العام أمام الغرب على مدى الحقبة الاستعمارية وفي أعقابها إنشاء دولة إسرائيل. ويتعلّق بعضها، يضيف ياسين، بعوامل «فقهية» من صنع المنظومة التراثية، وليس من صنع النص الإسلامي، طبعت رؤية المسلم للآخرين بطابع الرفض والتوجس. مقاربة عبد ياسين تعني أنه مع كون الغرب يقود حركة الحداثة اليوم فلا بديل أمام العقل المسلم عن مواجهة المشكلة التي تتعلق أساساً بتركيبته الذاتية، التي جمدت عن مواكبة روح العصر، وهذا العصر ليس الغرب، بل هو نتاج تجارب إنسانية أوسع مدى وأعمق زمناً وأكثر تنوعاً، مع الإقرار بالطبع أن الغرب (المتنوع والمتعدد بالطبع) هو الأكثر تجاوباً مع العصر حالياً، وتجربته في ذلك حافلة بالتجارب والدروس والإنجازات العظيمة. وأنْ نكون عصريين ليس بالضرورة أنْ نكون غربيين، لكنّ هذا ينبغي ألاّ يكون ذريعة للتقوقع والتخلف والانسحاب من العالم والمنجزات الإنسانية. والثقافات المحلية ستبدو جاذبة للآخرين بقدر ما تتمثل روح العصر، وتسهم في تقديم النجاحات المختلفة التي تجعل عالمنا أفضل، وستكون متخلفة حين تنسحب من روح عصرها وتحدياته وتعيش في عصر غيره تقدّم إجاباته عن أسئلتها. وهذا يقتضي قراءة جدلية السلطة والنص مرتين، عبر «ضرورة التمييز بين النص الحقيقي الخالص (المقدس)، وبين النص الذي يخفي تاريخاً سياسياً واجتماعياً مضمراً، كما يقتضي مراجعة التاريخ كما حكاه صراع القوى المتناحرة على السلطة خلال الحقب الإسلامية الأولى». وجدية أيّ رؤية في هذا السياق تقتضي الاستناد إلى أن التاريخ فعل في العقل المسلم أكثر بدرجات مما فعله النص في الحقيقة. إن الضعف السياسي العربي يُضعف فرص النهوض الفكري، واجتراح مبادرات جريئة في معالجة «الذاتي» (وهو الأوسع مجالاً والأكبر مساحة) في عطالتنا الحضارية وتأخر إقلاعنا. من هنا، فإن الإصلاح الديني لا يشتغل من دون ظروف وروافع وحواضن تسوّغه وتدعمه وتفتح آفاقه وتصنع أجندته. وتردي الواقع العربي والإسلامي يقدّم فهماً متردياً للإسلام، كما كان يقول المرحوم نصر حامد أبو زيد، الذي كان يؤكد أن التطرف الديني لدينا هو جزء من التطرف العقلي وجزء من منظومة اجتماعية كلية وتكوين عام، ومن هنا لم يكن تشددنا دينياً فقط، بل كان أيضاً اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. إن الإصلاح الديني العربي يعاني شح المبادرات الناجحة من حوله في المجالات المختلفة (العلمية والفنية والاجتماعية...). وحتى اليوم لم تخلق السلطات العربية شرعيتها السياسية من دون السيطرة على المؤسسة الدينية وخطابها الرسمي المبثوث عبر المناهج الدراسية والإعلام الرسمي. بمعنى آخر، إنّ من أهم أولويات الفكر الإسلامي اليوم لكي يكون جزءاً من التمدن والعصر، أنْ يخلق من الأدوات المنهجية والمقاربات الفكرية التي تفرز مضمون الرسالة الدينية الإلهية المتعالية عن الزمان، وتميز هذه عن النص / النصوص التي اختلطت باجتماع البشر الذين توجّه إليهم الخطاب الإلهي ابتداءً. فالمقدس ما تعالى على الاجتماع البشري (الإيمان والأخلاق وعالم الغيب)، وهذا يختلف عن التاريخ السياسي والاجتماعي الذي جاء النص يعالجه في زمنه، وليس بالضرورة أنْ تكون تلك المعالجة، المناسبة في حينه لظروفها السياسية والاجتماعية والثقافية، أبدية لكل العصور. هذا يعني أنّ كون «النص» مقدساً لا يصيّره خارج نطاق التحليل والقراءة، بل إن الإعلاء من فكرة جدلية «الوحي» و«الوعي»، وعدم تعالي غالبية النصوص عن الواقع، بل استجابتها العميقة لإحداثياته وحقائقه وشروطه، إنما يؤكد في المحصلة كم أنّ دائرة المباح واسعة، وكم أنّ دائرة الإلزام ضيقة. وما تخلّفتْ المنظومة الفقهية الإسلامية إلا حين قلبتْ المعادلة، فتعدتْ على دائرة المباح، حين وسّعتْ «النصوص»، من خلال اختلاط التاريخ بالنص، والتنظير عبر مبدأ «القياس» - الذي أرسى دعائمه الإمام الشافعي - بأنّ النص «يغمرُ» الحياة، وهو أكثر اتساعاً منها، على رغم أنّ التنزيل القرآني في حقيقته الغالبة كان انفعالاً عميقاً بالواقع، واستجابة لتفاعلاته. يسيء من يذهب إلى «واحدية» القراءة للنص المقدس إلى النص ذاته، وذلك بجعله يصطدم باستمرار مع الواقع والعصر، عبر خلط التدين بالدين، وتثبيتْ ما هو متغير، والحكم على الاجتماع البشري بعدم التحوّل والتغيّر. إن اقتناعنا بأن لا أحد يحوز الحقيقة كاملة، وأننا في حالة مستمرة للبحث عنها، يستدعي فتح النص على الواقع ومعارف العصر، لأنّ إدراك أن المعرفة الدينية جزء من المعارف وليستْ كلها أو سيدتها من شأنه أن يُغني المعرفة الدينية ذاتها. * كاتب أردني.