قديماً قالوا: «اللي في بطنه لحمة نية تمغصه»، وعلى رغم انتشار الكثير من المطاعم المختلفة والمتنوعة وحتى الوجبات السريعة، لتريح الناس من مهمة الطبخ في المنازل، تسابقت سيدات في استثمار قدراتهن في فن الطبخ، يعددن الأطعمة في بيوتهن ويبعنها للزبائن، ومع كل هذه المطاعم والكافتيريات، إلا أن حالات التسمم الغذائي يشكو منها الناس ليس فقط من المطاعم الخارجية بل حتى مما يُعد داخل البيوت. إلى وقت قريب لم يكن أحد يشكو من «المغص»، والسبب أن حال الانغلاق الذهني والفكري بقيت مسيطرة على المجتمع من عناصر تنظر إلى انه قطيع يمكن تحريكه أو توجيهه إلى حيث يريدون، إذا أردت ان تدلي برأيك قالوا لك كيف تتجرأ على ان تقول مثل هذا الكلام، وكيف تنتقد؟ إذا قلت كلمة حق، اعتقدوا أنك خارج عن الملة والجماعة، ولا يمكن ان يعلو صوتك فوق صوتهم، يجب ان تبارك وتهلل وتكبر في كل خطواتهم وأقوالهم وأفعالهم. إلا انه مع مرور الزمن اكتشفنا ان كل من كان يوجهنا أو يرسم لنا الطريق، إنما كان «يبرح لنفسه» كان يمهد لنفسه الطريق، يبحث عن مخرج ومصلحة لنفسه، حينما بدأت المشكلات تكبر وأصبح المجتمع يعاني من انتفاخ وترهل في الكثير من القضايا التي اعتبرها هي الخلاص الوحيد له، اكتشف أنها تراكمات وأن علاجها يحتاج إلى إما إلى عملية استئصال لرموز فكرية متشددة، أو أصحاب النعيم في الظلام، وهمهم فقط الوعظ من دون العمل به وتحويل مسار المجتمع من متحضر إلى خيالي يبقى سارحاً في عظمة هذا الكون من دون ان يكون له دور في إحيائه وتنميته. لعب الانفتاح الإعلامي الفضائي وتقنية الاتصالات والمعلومات في ظهور حالات «المغص» لدى الكثير ممن كانوا يعيشون ويقتاتون من أفكارهم ورؤيتهم وحتى توجههم، بل حتى في مراقبة أعمالهم وتصرفاتهم، تزعجهم حينما تقارهم بالأدلة والبراهين أنهم مخطئون وأن ما قبل سنوات كان خطأً جسيماً، وإذا تصرفنا هكذا أو عملنا هكذا لن يغير من عقيدتنا وديننا، ولن يفسد مجتمعنا، كان الإعلام بالنسبة لكل هؤلاء مدعي سماحة الإسلام وورعه مثل «اللحمة النية» تزعجهم وتؤرقهم وتقلق مضاجعهم، تسبب لهم حال من الهيستريا في وصف الآخر. حينما يكتب الصحافي موضوعاً أو ينشر خبراً فهو ينقل حدثاً إما سمعه أو رآه، ويكون صحافياً إمعة لو كتب غير الذي رآه أو سمعه، ولا يمكن لصحافي ان يكون فقيهاً، لأن العمل الصحافي لا يعني ان تكون على عرش الخلائق تملي عليهم رأيك وتريد منهم ان يسيروا عليه، مهنة الصحافة في كل دول العالم هي نقل الأخبار وأخذها من مصادرها وإضافة آراء سواء مختلفة أو متفقه مع الرأي المطروح، وليست مهمة الصحافي ان يقول كلاماً ليس له أصل، وليست مهمة الصحافي إثارة بلبلة وهمية في المجتمع، الصحافي حينما يكتب عن أداء لجهاز حكومي يقدم خدمات سيئة للمواطنين فهو ينقل الصورة إلى المسؤول، ولا يملي عليه رأيه، الصحافي، على رغم مخاطر ممارسة المهنة، هو الوحيد الذي يستطيع ان يزيحه أصغر موظف ان كانت له علاقة بمسؤول بارز وله نفوذ. ينزعج المسؤول أو أصحاب الفكر المتشدد حينما ينتقد الكاتب توجهاته أو فكره، أو حينما يرى ان هذا الفكر قد أنتج لنا إرهابيين ومحاربين لدولة القانون والنظام، أو يرى ان الفكر المتشدد يتمدد بشكل مخيف في المجتمع أشبه ب«الأفعى» حينما تريد ان تنقض على إنسان غافل، تحوم حوله تتسنح الفرصة. ما كان يوماً الصحافي أو الكاتب السعودي مثار فتنة أو يدعو إلى انشقاق المجتمع، كان المراقب الحذر لأي حوار، الصحافي السعودي كانت رسالته واضحة وهي تأصيل الوحدة الوطنية، واحترام العلم والعلماء ورجال الدين، ولكن لا احد فوق القانون، حينما يخطئ أي شخص، مهما كانت مكانته، لا بد ان يعاقب أو يحاسب، وهذا الكلام قاله أكثر من مرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الصحافي السعودي حمل مع المجتمع مصباح التنمية لينير الطريق، ويكشف عن الخلل، وحينما يزعج هذا الكلام «البعض» يعتبرون ان الصحافي صار «فقيهاً أو مشرعاً». الكثير من هؤلاء وضعوا خطوطاً حمر وهمية ويطالبون الناس ألا يتجاوزوا هذه الخطوط، ليس صحيحاً انه يفتعل الأزمة أو يقفز فرحاً من إثارة الفتنة، حينما يتجاوز الخلاف من وجهة نظر إلى اتخاذ مواقف، هذه لا تنذر بخير، وحينما تستخدم مفردات وكلمات قاسية في وصف الكتاب والصحافيين، واعتبارهم أنهم فقهاء أو مشرعون، فالمسألة واضحة أن قساوة الانتقاد التي وجهت إلى هؤلاء المتشددين كانت موجعة وأدت إلى نتيجة، لهذا ذهب البعض إلى اعتبار ان الإعلاميين «جند الشيطان»، هذا التراشق بالكلمات دليل على الانهزام، ودليل على ان الإعلام نجح في كشف ما كان غامضاً لسنوات طويلة، وأن التوجه الآن إلى بناء الإنسان وتنميته وبناء حضارة تسامح وقيم، ونشر الوسطية، والاعتدال، وبرنامج الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحوار الأديان وتسامح الإسلام، هي واحدة من البرامج التي اهتم الإعلام بها ويسير في خطاها لأنها تنشر الدين الذي يستطيع ان يتعايش مع كل الأزمنة والحضارات. الإعلام السعودي لعب دور طبيب العيون الذي أعاد للمجتمع تصحيح نظرته في الكثير من القضايا، وليس هذا فحسب بل أسهم في معالجة الفساد المالي وحالات الجشع الموجودة لدى البعض في القطاع العام أو الخاص، وحالات ضياع المال العام، وكان عيون المجتمع في كشف ومعالجة الكثير من القضايا الاجتماعية من حالات طلاق وبطالة وعنف أسري واستغلال المرأة وانتشار المخدرات وجوانب أخرى من حياة الناس، الإعلام سيبقى «لحمة نية» لمن يريد أن يصفق في الظلام. إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]