كنا حفنة من الأصدقاء حول طاولة على شفير البحر. فرحت بالليل المبلل بلهاث الموج. وبأضواء المراكب الهائمة قبالة الساحل. وكانت طموحاتي شديدة التواضع. أن تمضي ساعتين هادئتين في بلد لم يعرف الهدوء منذ عقود. وأن تحارب الوقت بود العلاقات القديمة. وأن تضحك قليلاً في بلد تحوّل معهداً للبكاء. وأن تكون الخضروات ندية لا سيما الصعتر. وأن يكون السمك طازجاً في بلد فسد فيه كل شيء. تتقلص أحياناً علاقة المرء بوطنه. قد تقتصر على الطريق المؤدية الى المكتب. وإلى مقهى يلتئم فيه رفاق سابقون هاجر أبناؤهم ودَهَم الشيب مفارقهم. وسعياً الى التصالح مع ما تبقى من الوطن تضرب صفحاً عن صعود النجوم الجدد، الى المواقع والشاشات، بلهجات لا تتسع لها التركيبة اللبنانية الهشة. وبقواميس لم نعرف مثيلاً لها حتى في أعنف دورات الحرب. قلنا نترك البر لشؤونه وشجونه. وننسى الشراهة التي أطلت سافرة حين تردد ان مياهنا الإقليمية تخفي شيئاً من النفط والغاز. لقد طُحنت الجبال وبيعت. وشُفط الرمل وبيع. ويتهيأون الآن للانقضاض على الثروات الدفينة. أعوذ بالله. يصعب عليك في لبنان ان تستمتع بنسيم الجبل أو تنهدات البحر من دون ان تسبق ملفات المنطقة السمك الطازج الى طاولتك. اللبنانيون شعب متفرغ للسياسة. شعب من الصحافيين والمحللين. وتكتمل الصورة إذا أسعفك الحظ بأصدقاء يتابعون كل شاردة وواردة في «الأقاليم» اللبنانية ويجيدون ربطها بمخاوف إقليم الشرق الأوسط. قال الأول ان الغيوم السوداء تتجمع. وإن الملف النووي الإيراني سيشهد مزيداً من التصعيد. واقترح مراقبة الوضع من بغداد الى بيروت من دون تناسي أوضاع القوة الدولية في جنوب لبنان و «الإشكالات» التي تعتري أحياناً علاقاتها بالأهالي. تدخّل الثاني مشيراً الى خطورة الانفجار الأخير في إقليم سيستان بلوشستان جنوب شرقي ايران. قال ان العلاقات السنية الشيعية في الإقليم تمر بمرحلة صعبة. عبّر عن تخوفه من عودة العنف المذهبي في العراق إذا بقي بلا حكومة أو تشكلت حكومة تذكّر بغلبة فريق على آخر. تمنى ان يحاول اللبنانيون اتقاء الشرارات الجديدة لأن الأرض تبدو خصبة للاشتعال بفعل تداخل المخاوف والملفات. قال الثالث ان المنطقة تتجه نحو المزيد من مواعيد الطلاق. الطلاق وارد ومرجح بين جنوب السودان وشماله. اليمن بدوره قد يشهد محاولة دامية للطلاق بين الجنوب والشمال. نقص التسامح وأزمة الهويات وصعود التشدد قد يغري كل أقلية بارتكاب حلم الإقليم. وإن أحلام الطلاق تفوق أحلام التعايش والزواج. وقال الرابع ان المحكمة الدولية ستنفجر بلبنان وهي تفوق قدرته على الاحتمال. وإن التحولات البنيوية التي شهدها المجتمع اللبناني تجعل مشروع الدولة مؤجلاً ومستبعداً. ورأى ان مستقبل لبنان يتوقف على العلاقات والحسابات داخل مثلث يضم الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري. ولاحظ ان سورية الحالية قوية ومستقرة وقادرة على التحول قوة استقرار في المنطقة وأن لبنان هو الاختبار الأول. كان العشاء ممتعاً. وكان السمك طازجاً والبحر جميلاً. وناب عني أصدقائي في كتابة المقال.