تعهد الرئيس باراك أوباما أخيراً دعم إدارته سياسة «الغموض النووي» الإسرائيلية. جرى الإفصاح عن هذا التعهد أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو واشنطن في نهاية الأسبوع الأول من تموز (يوليو) الجاري. الأمر مثير في وقاحته واستهتاره. هذا ليس لأنه يحدث خرقاً في نسق السياسة الأميركية حيال إسرائيل وتسلحها النووي، فلقد ثابرت الإدارات الأميركية طوال أربعين سنة على دعم الغموض الإسرائيلي، أي على توفير الحجب المناسبة له، والحيلولة دون التساؤل في شأنه أو تولي أية جهات دولية تفتيش المنشآت النووية الإسرائيلية، ولا لأنه خطوة إضافية في ترويض إدارة أوباما وانضباطها بتوجهات المجموعات الأكثر يمينية وعدوانية في النخبة الأميركية، بما فيها اللوبي الإسرائيلي، ولا كذلك لأنه مكافأة لنتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر رفضاً لسلام إقليمي وفق قرارات الأممالمتحدة، بل بخاصة لأن الطرفين، الأميركي والإسرائيلي، يدأبان اليوم بلا كلل لتجنيد العالم كله ضد خطط نووية إيرانية مشكوك بأمرها. قبل أسابيع قليلة فرض مجلس الأمن بمبادرة من القوى الغربية عقوبات على إيران بذريعة أنشطتها النووية. ترى، ألا يمنح الدعم الأميركي سياسةَ الغموض النووي الإسرائيلية شرعية كاملة لأية برامج تسلح نووي إيراني محتملة؟ وهل يمكن التماس سند أخلاقي لإغماض العين عن تسلح نووي إسرائيلي محقق، يعلم به العالم كله، والإصرار تحت وطأة التهديد بالحرب على كشف خطط نووية محتملة لإيران أو غيرها من دول الإقليم؟ ولا بحال من الأحوال، إن كان معيارنا في الحكم هو العدالة وتطبيق القواعد نفسها على الجميع. لا يغير من الأمر أن لا جديد في التعهد الأميركي الأخير. لا جديد حقاً. لكن لا ينبغي السكوت عليه أو اعتباره من عاديات الحياة لمجرد أنه قديم. من شأن ذلك أن يجعل الجور القديم الراسخ عدالة، ويقلل الحساسية المطلوبة حيال هذا الخرق الفظ لمبادئ العدالة، فيشجع خروقاً أكثر فظاظة بعد. ومن شأنه أيضاً أن ينسف الأسس الأخلاقية للسياسة وكل عمل عام، فيجعلهما شأنين غير مفهومين، أو يعزلهما عن مدارك الجمهور العام. وللأسف هذا منوال ثابت في السياسات الدولية، كما في السياسات المحلية لدينا. لكن لذلك بالذات العالم اليوم أقل عدالة وآفاقه أقل وعداً من أي وقت مضى، ربما طوال أزيد من قرنين. وهو يبدو ممعناً في هذا الاتجاه أمام أعين الجميع. ليس الغرض تسجيل موقف ولا تغذية مشاعر العداء لأميركا. لكن بالضبط أن نستعيد امتلاك سلاح العدالة ونرفض استثناءات لمصلحة الأقوياء. لا نستطيع أن نغضي عن استثناء أميركي عالمي، وإسرائيلي إقليمي، من دون أن ينال ذلك من شرعية وأخلاقية احتجاجنا على نظم استثناء متعددة الأوجه تستبيح حياتنا في بلداننا، أو من دون أن نفقد حقنا في العدالة في بلداننا. وبالمثل، ما من جدارة أخلاقية في السكوت على أحوال الاستثناء المقيمة في ديارنا على ما يفعل كثيرون بيننا، مع رفع الصوت ضد انتهاك قوى معادية القوانين الدولية. هذا مثل ذاك وذاك مثل هذا، وما من شيء يبرر أحدهما قيد أنملة أكثر من الآخر. قد يبدو مجمل هذا الطرح أخلاقياً وغير سياسي. هو كذلك بالفعل. من شأن إعادة القضايا السياسية إلى جذورها الأخلاقية أن تتيح لجمهور أوسع أن يكوّن رأياً في شأنها، استناداً إلى حس دفين بالعدالة يحوزه جميع الناس. بهذا يكون ذا مفعول ديمقراطي وتحرري. بالعكس، إن من شأن فصل القضايا السياسية عن جذورها الأخلاقية أن يجعل السياسة فناً اختصاصياً ونخبوياً، وملعباً حصرياً للأقوياء في الوقت نفسه. قد يناسب هذا الأقوياء أنفسهم، وقد يناسب سياسيين محترفين، لكنه ليس مناسباً بحال لعموم الناس، ولا للمثقفين المعنيين بعالم أكثر عدالة أو أقل جوراً. ليس لنا أن نستبطن وقائع اللامساواة بذريعة العقلانية. هذا قصر نظر، يقود كلما طال به الأمد إلى مزيد من اللامساواة، ومن اللاعقلانية أيضاً. لقد ساهم ما تختزنه العلاقة الأميركية الإسرائيلية، والغربية الإسرائيلية بعامة، من تمييز وإقصاء في شل مجتمعاتنا وثقافتنا بطرق متنوعة، ليس أبرزها الذراع الإسرائيلية الضاربة في أي وقت ضد أي تعديل محتمل لموازين القوى المختلة المفروضة منذ عقود، بل بخاصة إظهار الغرب ككل قوة خاصة، «حضارة» هنتنغتونية، مفتقرة إلى أية قيمة عامة. هذا بينما نحتاج إلى محاكاة الغرب المتطور أو تقليده في جوانب شتى من نظمه الاجتماعية والقانونية والاقتصادية والعلمية، الأمر الذي لا يتيسر من دون استرخاء أكبر حيال تنظيماته واعتبارها عالمية القيمة. من أين يأتي الاسترخاء؟ لكن الاعتراض على السياسات الأميركية والغربية في مجالنا لا يستمد شرعيته من دفاع حيوي عن النفس هو ما عليه تتأسس العدالة وحق الجميع بها، ولا من إرادة المشاركة في عالم واحد لا يُستطاع الخروج منه ولا يُرغب، بل كذلك من حقيقة أن استمرار هذا النهج الفظ في استهتاره بالمساواة بين الدول والمجتمعات يجعل العالم كله مكاناً أسوأ. يبدو هذا ظاهراً اليوم، وفي المركز الغربي أكثر من غيره. توسع الديموقراطية متوقف فيه أو حتى متراجع، وهو (الغرب) يكف عن تقديم رؤى ثقافية تحررية ذات مدى عالمي. بالعكس، يبدو منعكفاً على ذاته، حريصاً على الإشادة بقيمه ومؤسساته على نحو ما تفعل نظم استبدادية لدينا، كما لو أنه ليس واثقاً من تفوقها فعلاً. إنه اليوم «حضارة» بالفعل. هل هذا منفصل عن ممارسات تمييزية كالتي يعرفها بخاصة «الشرق الأوسط»؟ إذا وضعنا في بالنا أن العسر الديموقراطي الغربي يظهر اليوم بخاصة حيال مهاجرين من العالم الإسلامي، يتنامى ضيق الغرب بهم ويتفاقم شعورهم بالاستلاب فيه، تبدى لنا كم أن ما يجري هناك ليس معزولا ًعما يقع هنا، والعكس بالعكس. وهذا وضع غير طارئ وغير مرشح إلا لمزيد من التعقيد. هل من مسوغ لكل هذا الكلام عن «الغرب» بمناسبة موقف أميركي يبلغ من اعتياديته أنه لم ينل اهتمام وسائل الإعلام؟ نعتقد أن نعم. ليس فقط لأن القوم يؤذوننا بشدة، وإنما كذلك لأن التغافل عن ذلك أو تناسيه لا يعزز غير وزن القوى الأكثر انغلاقاً في مجتمعاتنا. إننا نخسر معركة الحداثة على يد المركز الحداثي العالمي.