الأحد 11/7/2010: سهرة مهاجرين نجلس أول المساء في الحديقة المطلة على جبال ووديان. أول المساء والمصابيح تتنافس مع الشمس الغاربة. ونترك التعب هناك في أماكن العمل البعيدة، نتخفف منه بحديث اللقاء. بعضهم يروي أحدث النكات فتعلو الضحكات حقيقة أو مسايرة، والبعض الآخر يتلفت ليستوعب جمالات المكان: بساط العشب الأخضر وجزر الأزهار البرية حرة من خطط الإنسان. يتحلّق المدعوون بحسب اهتماماتهم لكن صاحب البيت ينصح بإهمال حديث السياسة: إنها تطرق أسماعكم يومياً بلا استئذان فاطردوها لسهرة واحدة. هذه السياسة اللبنانية لا تعرف صحيحها من خرافتها ولا بسيطها من معقّدها وهي في كل أحوالها متقلبة الأهداف بين ظاهر وباطن. حكايات السفر هي المهرب. يتبادل الساهرون روايات عن تجاربهم في غير مكان من عالمنا الواسع، عن العمل في بلاد بعيدة ومفاجآت النجاح والفشل، ويكادون يجمعون على أن العالم يضيق فلا يفتح ذراعيه لأي مغامر جوّال. لكن الدهشة تندر في عالم يعرض نفسه مسبقاً عبر الوسائط الإلكترونية فلا يترك للمسافر حيزاً خاصاً به. تسافر فكأنك جالس أمام شاشة الانترنت، فلماذا السفر؟ ولذلك فأفضل حكايات السفر ما رواه رواد في أوائل القرن الماضي ولا حكاية جديدة مدهشة، نسمعها فقط من باب آداب المجالس. سهرة تحت النجوم في حديقة النسيم المنعش، تتكرر مرة أو مرتين في السنة. أهل السهرة معظمهم مقيم خارج البلد يأتون إليه لحفظ هوية لا يريدون تضييعها في شتات الأمكنة، وهم يغبطون أنفسهم على الوطن رغم ملاعبته الخطر منذ نشوئه. كأنهم حين يلتقون في سهرة مثل هذه يبددون خوفهم على الوطن الى حين. ولبنان الواقف دائماً على حافة الوهدة يقدم سلامته هدية اللقاء وينتظرون هدية السنة المقبلة على خوف ألا تأتي. تعبت الطاولات ولم تتعبنا سهرة الجمال الليليّ، كأننا جماعة عالمية «تحج» الى أرض الآباء والأجداد. ولا تتنافس جماعة المهاجرين هذه مع المقيمين، إنما تعترف بأن المقيم في لبنان على حد السكين يحقق مغامرة يعجز عن مثلها المهاجر. الاثنين 12/7/2010: منتهى الربح القصيدة منتهى الربح أو منتهى الخسارة، ولا قصيدة للوسط العدل. إن القصيدة إفراط أو تفريط. هكذا لم يعلمنا أرسطو أو أننا رفضنا علومه. ولأن غالبية قصائدنا خسارات فقد مللناها. أين قصيدة الربح، القفز، الضحك العالي، الحب على حافة الشرفة، بيع العمر في مقابل لحظة متوهجة؟ الثلثاء 13/7/2010: سيرينا جمال الغيطاني شاطئ الناقورة على مقربة من الحدود/ الجبهة مع إسرائيل. تراه ويمنعك الوضع الأمني من السباحة فيه، خصوصاً عند نقطة الاشتباك بين ماء وماء. عند شاطئ الناقورة ومن حولي نساء ورجال يتوزعون بين السباحة والاستلقاء تحت الشمس. أسمعهم يتكلمون بلغات عدة وأتساءل من أين جاؤوا. وحدها صديقة قديمة تأتي من الماء مثل سيرينا الزمان. ظننتها سافرت بلا عودة وكدت أنساها. تبتسم السيرينا الغامضة وقبل أن تصل إليّ أسمع من خلفي صوت جمال الغيطاني. المصري الأسمر يسبح هنا وعلى كتفيه غبار حي الجمالية في القاهرة الفاطمية. التفتُ إليه مرحّباً فلا يأبه. إنه يتطلع أيضاً الى السيرينا. كلانا ينتظر المرأة نفسها فلا حديث بيننا لئلا يتحول الى عراك. الصديقة القديمة تعبر ما بينه وبيني لا تلتفت. تستمر في المشي حتى أول العشب وتكاد تغيب بين الأشجار. هل تسكن هناك؟ هل تواعد أحد رفاقنا أيام المدرسة الثانوية؟ لا أستطيع التحديد لأن المعجبين بها كانوا كثراً. جمال الغيطاني وأنا على شاطئ الناقورة. نحاول التأكد من أن السابحين سياح أجانب وليسوا إسرائيليين في بحرنا. لا نستطيع فلا أحد منهم يردّ على تحيتنا. جمال الغيطاني وأنا عند الحدود البحرية جنوب لبنان، هنا الماء الأكثر غنى بملحه ويوده ولمعانه المستمد من الشمس وهنا الرمل الأكثر نظافة. وفي الناقورة تمنعنا الحيرة من ملاعبة الماء. يطبق علينا القلق من حروب تتواصل والتوجس من هجوم إسرائيلي في شكل نساء ورجال يسبحون. جمال الغيطاني في مصر، ومصر القريبة تبعد عنا أو نبعد عنها. استحضر اسمها الحبيب في بيت شعر غريب لسعيد عقل (من ديوانه «كما الأعمدة»): إن لم نزن مصر وزن الحق سال دمٌ على الضمير ويبقى أن يسيل دمُ. الأربعاء 14/7/2010: نجوم الرعب كأن النجوم اختفت من سمائنا، أو أن الغيم يحجبها. نسهر في قاعات مسقوفة ونطلق أشواقنا في زوايا المقاهي، ولا من يفكر بعدّ النجوم هرباً من حبه العاثر. وحين نزور بلاداً صحراوية تحلو الظلال، نتخيلها حتى في الليل كأننا نخاف السماء المباشرة أو أن تشهد عرينا النجوم. وليست وحدها الحضارة تفصلنا عن السماء العارية. هناك شيء في النجوم يطبق على خيالنا فيصير محدوداً بطريقة مخجلة، خصوصاً حين نتهيب رؤية المدى غير المحدود للنجوم والمجرات في ليالي الصيف الصافية. بل تبعث النجوم رعبنا حين نقرأ اكتشافات المراصد كما في الخبر الذي نشرته مجلة «نيتشر»: «هناك دفق قوي من الجزيئات يبلغ طوله الإجمالي ألف سنة ضوئية يصدر عن ثقب أسود بعد انطفاء نجمة كثيفة واحدة. هذا الجسم الذي يطلق عليه اسم «مايكرو كازار» ينفث فقاعة كبيرة من الغازات الحارة يبلغ قطرها ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية يبلغ قطرها 9400 بليون كيلومتر). والفقاعة التي تزداد اتساعاً منذ 200 ألف سنة على الأقل تنمو بسرعة حوالى مليون كيلومتر في الساعة الخ... الخ...». رؤية النجوم ليست تسلية للحبيب الخائب، إنها مفتاح للرعب أمام رحابة الكون، ودعوة الى التواضع، بل أمر بالتواضع. الخميس 15/7/2010: دهشة هذا الحزن يفقد سخونته، إنه كثير مرمي على الطرقات مثل ماء موحل. والألم عمومي ليفقد طعمه ولا يلفت الانتباه، والخطأ على المنابر كلها ليرحل الصواب بعيداً، والحق موزع على ترجماته المتعددة، والفرح سرقة بين قانون وقانون... والقانون يطبع مجدداً كل أسبوع، منقحاً ومزيداً بحسب توازن المصالح. أحتفظ في أعمق أعماقي بمقدرة على الدهشة. إنها كنزي، أطلقها في المساء من المخبأ وأنظر الى المرآة: الفم المفتوح الى منتهاه والعينان المتعجبتان والدموع تسيل خارج مجالي الحزن والفرح.