كنت أرى وحدتها في الصمت وهي تناجي القمر، فتراني طفلاً ليناً غضاً، لبياضِ جسدي رائحةُ الشمع والبرد والمكوث. تشير إلى رائحة الدخان المتسرسب في فضاء الليل، وتقول: هذا فهمي وصورته؟ طيف من ذكرى عبور العقود الميتة من عمر سكان حارة المنزلاوي والذين لم يشغلهم إلا الترحاب بالعابرين ليل نهار، لمقام «البازات». لحمٌ؛ من جنة ونيس، ووهج النار الخارج من جسد أم هاشم. لهيب ما بعد العصاري، ما قبل اختفاء أطفال منتصف الليل خلف أجران القمح العامرة والدنيا شتاء. وأثير ترانزيستور معلق في هواء الكراسته المفتوحة على شوارع خلفية. تلوح أبوابها. تخور قبل المغيب. يتوالى منها الريح. الأب مسافر. وعبدالله العاجز؛ تأخَر قدومُه النصف أسبوعي. أجران قمح تنفث روائح لدفء بعيد. أم حامد تتطلع إلى القش فوق البيوت. وصبايا يتجمعن في حوش بهية، يتقافزن، يلعبن الحجلة. أخبار خفيفة، من إذاعة الجمهورية العربية المتحدة، وأبوه غاب منذ ليلتين، ليأتي بعمه القادم إلينا بالبشارة. حُرِقَ المحصول. الموسم نفد. عيدان البوص تُرمى أمام ناظري في مدخل بيت عبدالله السناري. وهي تمشي ببطء تتعمد الرجرجة وقت الخطو الخفيف حافية، على طريق حارة سعيد الترابي الداكن وبياض الربلة، وحمار الكعب، وشتائي الثالث. وفصل يلملم خِرقَه. كراسة التعبير. كشكشول الفرنساوي ومسيو عبدالعاطي، وزوجته ذات الأصل التركي؛ الهانم شام. وبلوك نوت لأبي، وكارنيه لشاب في العشرين يرتدي زي الدفاع الشعبي، والوظيفة مراقب جوي. 28 ورقة مجلدة بدبوس أصفر، قزاز وحاجيات، عجلة دائرة في الفراغ مصنوعة من أغطية زجاجات الإسباتس. تذاكر قطارات، وملابس مبعثرة فوق سريره النحاسي، تتراءى لعينيه الناعستين، كحبات عنب ذابلة، تضوي تحت الضوء الشاحب الزاحف من عمود قديم ووحيد يربط مدخل الحارة بسكة نوفل المراكبي. وصورة تهتز على جدار للمهندس «سعد بزي ميري»، وهو لابِد على ربوة منسية. وتلة في آخر الشارع تعثرت بها قدمي يوم أن جئنا أول مرة إلى هذا المكان. وقدوم الرمد وجفاف حلق جدتي من طول المشوار. كالأعشى كان يسير شبه مترنح في يد الخال وصوت الأغاني ومارشات الهزيمة تزعج «حسن الوابور» و «الريس أنور البمبوطي». رأيته يصرخ ونحن نفارق «المناخ» على وقع راجمات صواريخ لا أعي قِبلَتَها. مدَد يا بازات. يقولها أحمد البنهاوي، وقت أن استكملت سامية رسم خارطة الملاءة الوردية. بالكانفاه وظلال قلم رصاص وطرف مقص نحاسي تبرق بعينيها السوداوين في وجه أم حلبي مرددة: ممكن بكرة ننتهى منه ونقص الورد المبرقش من فستانك الغزاوي الأحمر القديم. قرآن يُتلى: «والتين والزيتون وطور...». هسهسة في غيطان بعيدة وكل الإناث في الديار فرشن الأكلمة قرب منافذ الرياح المفتوحة على دلتا النيل. صراخ مباغت سبق صوت القطار الذي ينصت إليه بخوف كل ليلة قبل هروبه من ظلاله تحت كليم بني اللون. كان مُمدَّداً بلا نوم، بعد سريان الليل بساعات.