لا تعفي مبررات جيلبير الأشقر بتركيز تقييمه على «التطورات المأساوية في بلدين محوريين: سورية ومصر، مع مسح وجيز للمسارح الأخرى لانتفاضة 2011 الإقليمية» (ص9) في كتابه الصادر حديثاً عن دار الساقي، بعنوان «انتكاسة الانتفاضة العربية - أعراض مَرَضيّة» من التساؤل حول قصره البحث على بلدين تشابها وافترقا نتيجة لما اصطلح على تسميته الربيع العربي، وكان الرئيس الأميركي أوباما أول من أطلق التعبير عام 2011. والقول بالتشابه لأن ثمة حراكاً حصل في البلدين، ليفترقا في المنحى التطبيقي لهذا الحراك، فاقتربت النتائج في مصر مع ما حصل في تونس من دون حروب، وتطابقت بين سورية واليمن في المشهد الدموي العام... والذي يجعلنا نطرح السؤال إنما يكمن في تشابه أزمات المجتمع العربي البنيوية، وفي قواسمها المشتركة من أعلى الى أسفل وبالعكس، في لعبة تتفاوت فيها القوى والأحجام والظروف، وتالياً في النتائج أمام أي تحول قد يطرأ، وهو ما تبدّى ولايزال في انفلات الوحش الكامن بوجهيه الظاهر والباطن في المشهد العربي العام. ما لمسناه في الكتاب هو الطابع السردي للأحداث في البلدين المذكورين، وجلّها بات متداولاً بما فيه من شوائب «النميمة» الخبرية وإن مسندة بأقوال وتصريحات قد لا تفيد في دقة البحث العلمي التاريخي، أو لمن ليس في مواقع صنع القرار. على رغم دقة ما اختصره الأشقر بقوله «اتّسمت المنطقة العربية قبل سنة 2011 بغلبة الدول الميراثية في سياق اقتصادي عام من رأسمالية المحاسيب». وأن هذه الميراثية والسمة الريعية «أدتا الى تطور نخبة سلطة ثلاثية عميقة الفساد داخل الدول النيوميراثية العربية ذاتها: إنه مثلث سلطة يتشكل من القمم المتداخلة للجهاز العسكري والمؤسسات السياسية وطبقة رأسمالية محددة سياسياً، والقمم الثلاث عازمة على الدفاع بشراسة عن استحواذها على سلطة الدولة، المصدر الرئيسي لامتيازاتها وأرباحها»(ص19)... مع إشارته الى ما وصفه «معارضة جماهيرية للنظام الإقليمي في صورة حركات أصولية إسلامية». يألف المؤلف باب الفرضيات، وهذا ما يتنافى مع توقع القارئ لخلاصات استراتيجية رؤيوية... مثلاً في سؤاله سورية الى أين؟ يجيب متوقعاً أن المعارضة لن تقبل بأقل من رحيل الأسد، ويراهن على تحول قطاعات واسعة من الجماعات الجهادية عن الجهادية، وأن فاروق الشرع من المرجح أن يلعب دوراً مركزياً، وأنه لو قدر لتجربة ديموقراطية أن تنتصر وتهدد بالانتشار من سورية الى البلدان المجاورة، فإن ذلك سيكون من شأنه تشكيل تحدٍّ أكبر بكثير للنظام الاقليمي الذي تسيطر عليه الولاياتالمتحدة من أي شيء تمثله داعش» (ص79). وإذ يلوم في سياق تحليله التردد الأميركي في عدم دعم المعارضة السورية بالسلاح «لكان الوضع على الأرض مختلفاً تماماً» (ص44)، فإنه يتهم النظام السوري بإنشاء داعش ويصفه ب «العدو المفضل لنظام الأسد» (ص49)، ليبني عليه مشهداً يقول إنه تلاقت فيه مصالح النظام مع دول الخليج فيقول: «وحيث ان الخوف الشديد من العدوى المحتملة للديموقراطية ينتاب النظام القديم الاقليمي العربي في مجمله بقدر ما ينتاب نظام الأسد». الفارق شبه الوحيد الذي يراه الأشقر في ما سماه المأزق السوري واصفاً إياه ب «العظيم» إنما يتعلق «بالإدارة الذاتية ذات الغالبية الكردية من منظور اجتماعي كما من منظور علاقات الجندر»! (ص63) وذلك في سياق إشارته الى «وحدة حماية النساء» في حزب الاتحاد الديموقراطي، مستبعداً «قيام تجربة مماثلة في الحكم الذاتي التقدمي المسلح في صفوف السوريين العرب» (؟!). ولا يختلف الفصل المتعلق بمصر عن سابقه المتعلق بسورية، إذ عرض وقائع الأحداث الكبرى التي حصلت بدءاً من الثورة، الى مصادرة الإخوان المسلمين لها، الى كيفية وصولهم إلى سدة الحكم واعتلاء مرسي الرئاسة، وإخفاقاتهم وفشلهم في إدارة الحكم، الى انقلاب 30 حزيران(يونيو) ووصول السيسي رئيساً، ليشير الى ما توقعه في كتابه «الشعب يريد» من أنه «لم تتقلص سلطة الجيش وامتيازاته بتاتاً في ظل مرسي عما كانت عليه في ظل مبارك، ولم تشهد مصر أي شيء قابل للمقارنة ولو من بعيد بما جرى في تركيا من تطورات وضعت نهاية حقيقية لوصاية الجيش على السلطات السياسية التركية» (ص 82)، الأمر الذي يجعلنا نلفت الى ما أطلقه رئيس «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي صلاح الدين ديميرطاش في حوار مع صحيفة «جمهورييت»، قائلاً إن مسودة رفع الحصانة عن النواب الأكراد تسلّمها زعيم «الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو من رئاسة أركان الجيش بالذات» (عن صحيفة السفير السبت في 4 الجاري) الى أن ينهي تساؤله عن مصر الى أين فيقول: «ما لم يُعالج لغز الثورة المصرية الإستراتيجي المتعلق بالدولة العسكرية - الأمنية فإن هبّات المستقبل تواجه خطر التعرُّض لمزيد من التصعيد في القمع الدموي»، وفي «توسيع صفوف محور القاعدة - داعش الهمجي» (ص169)، مستعرضاً رهان «واشنطن من خلال وساطة إمارة قطر على جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعلى الصعيد الإقليمي كسبيل لاحتواء الموجة الثورية لسنة 2011 وتوجيهها نحو نتائج تتوافق مع مصالح الولاياتالمتحدة» (ص83). وإذ يأسف «لأن اليسار العربي في المنطقة العربية أثبت حتى الآن عجزه عن أن يفتح في شكل حاسم طريقاً ثالثاً اقليمياً متساوياً في معارضته في قطبي الثورة المضادة الإقليميين المتنافسين: النظام القديم والأصوليين الإسلاميين»، (ص188) فإنه يستعيد ما وصفه بالنبوءة في تحذيره الوارد نهاية كتابه السابق على الكتاب بين أيدينا بعنوان «الشعب يريد» من أنه «في غياب تحُّول جذري في المسار السياسي للمنطقة يكون قادراً على محو التطورات الرجعية للعقود القليلة الأخيرة، وإحياء المشاريع الاجتماعية التقدمية على أساس ديموقراطي عميق، فإن الهبوط الى هاوية الهمجية هو ما ينتظر المنطقة» (ص23)، ولأن «مفتاح تحويل ربيع عربي جديد في المستقبل الى ربيع دائم، هو بناء القيادات التقدمية الحازمة في استقلالها» (ص193). * صحافية لبنانية