تهز ثقافتنا المحلية بين الحين والآخر إثارة إعلامية هنا أو هناك مصدرها رأي فقهي غير مألوف، يتعلق بسلوك فردي ونظام اجتماعي امتد لسنوات في إقليم وعقود في إقليم آخر، ما يستوقف المتابع عند مدى علاقة المجتمع بثقافته ونقد مصادر التلقي والاستدلال لديه. إن أسهل طريقة عرفها الإنسان بل والحيوان لاكتساب المهارات والكلمات هي التقليد. يقلد الأبناء الآباء والبنات الأمهات. ثم تتجاوز الدائرة منزل الطفل إلى مدرسته وأقرانه وجيرانه... الخ. ويظل التقليد أسلوب الجماهير من الناس بوعي ومن دون وعي منهم إذا أردت أن تكون مطربًا بالقرآن فقلد أحد القراء المعروفين، حتى الاتقان. يتنبه بعض الناس لهذا الأمر مبكرًا فيتجنب التقليد قدر المستطاع ويعيب من يمارس التقليد وذلك بعد أن ينطبع في ذهنه قبح التقليد ونقص المقلدين حتى إن بعض الأطفال يرفض أن يقلده غيره ويمنعه من ذلك. ثم تبدأ المعايير بالصعود في الموضوعية والنضج الفكري للإنسان عند أول اختبار لقدراته الحقيقية ومدى تحصيله وفحص خامته. فلا يكفي حينها مجرد التقليد بل لا بد من امتلاك زمام القدرة والمهارة. يكتشف التقليديون هنا قصور التقليد عن تحقيق النجاح في امتحان القدرة والكفاءة والجودة والاتقان، بينما يسعد غير التقليديين بهذه المعايير والمقاييس التي تبرز كفاءتهم وقدراتهم ونجاحهم وتفوقهم. التقليد تقنية سهلة ويسيرة للوصول إلى الأهداف لكن لا يمكن الوصول الى الأهداف بمجرد التقليد بل بالتنبه وملاحظة الخصائص والميزات التي ساهمت في حصول النجاح لدى النموذج الذي يتم تقليده فيحصل اكتساب المهارة بالتكرار والتدريب عليها مع ملاحظة النموذج في كل مرة. والشركات على سبيل المثال إنما تتميز في جو المنافسة لشركات مشابهة يقلد بعضها بعضًا ولا يجب اكتساب النجاح من دون مثال سابق يقاس عليه. فما ترك الأول للآخر شيئًا، كما قيل، للسابق فضل السبق وللاحق فضل الإضافة واللحاق والبناء فوق الرقم القياسي السابق. في أصول الفقه الإسلامي يتناول المختصون موضوع التقليد ومقابله الاجتهاد وهذه القسمة تقريبية بمعنى أن المكلف إما مجتهد وإما مقلد. والتحقيق أن الاجتهاد نسبي والتقليد نسبي أيضًا. فقد يكون المكلف مجتهدًا مقلدًا بتفاوت. بعض مسائل العلم والعمل في الدين تتطلب من المكلف قدرًا من الإدراك الذهني والإلمام بالنصوص والقواعد الشرعية المتعلقة بالمسألة حتى يستوعبها ويجمع الأقوال فيها وأدلة كل قول ومناقشة كل دليل والترجيح وسبب الترجيح وما يترتب على الترجيح ثم يكون مجتهدًا في هذه المسألة. بينما يظل مقلدًا في مسائل أخرى. فلا يجب على كل مكلف أن يكون مجتهدًا في كل مسائل الدين ولا يجوز أن يظل مقلدًا في كل مسائل الدين. بل يكون في الأمور العلمية والاعتقادية متبعًا بالدليل، فما اشتهر من الدين في كل زمان وكل مكان، من الأمور الظاهرة الواضحة المحكمة لا يجب عليه أن يعيد النظر فيه ويجتهد في تحقيقه كتحريم الشرك والعقوق والقتل والزنا والسحر والخمر والتطفيف والظلم وأكل أموال الناس بالباطل ووجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مما اتفق عليه الرسل في وصاياهم العشر.