لم يوضع حتى اليوم تقويم شامل لأول اتفاق شراكة بين دولة عربية والاتحاد الأوروبي، وهو الاتفاق الذي توصل إليه الاتحاد مع تونس في 1995. مع ذلك كرت السبحة في أعقاب ذاك الاتفاق، فأبرم الأوروبيون شراكات مع باقي البلدان العربية المشاركة في مسار برشلونة الأورومتوسطي. وظفر المغرب الذي توصل إلى اتفاق شراكة مع الاتحاد في 1996 (دخل حيز التنفيذ عام 2000)، بمنزلة «الشريك المُتقدم» في تشرين الأول (أكتوبر) 2008، وكان بذلك أول بلد عربي يستثمر سياسة الجوار الأوروبية ويحصل على دعم مالي يُقدر بمئتي مليون يورو سنوياً. غير أن تنفيذ خارطة الطريق، المُستمدة من اتفاق الشريك المُتقدم، الذي كان يُفترضُ أن يُعزز إدماج المغرب في الاقتصاد الأوروبي ويُعمق الحوار السياسي، تعثر بسبب قرار المحكمة الأوروبية في شباط (فبراير) الماضي إبطال اتفاق زراعي توصل إليه المغرب والاتحاد الأوروبي في إطار توسعة الشراكة بين الجانبين. أما تونس فتتجه نحو التفاوض مع الاتحاد الأوروبي للتوصُل إلى اتفاق شراكة جديد سيكون، إذا تم التوقيع عليه، مصيرياً للأجيال المقبلة. وبينما تؤكد الحكومة التونسية أن المفاوضات في هذا الشأن لم تبدأ بعدُ، وأن تونس حرة في أن تخوض هذه المفاوضات أو ترفضها، يعتبر الجانب الأوروبي أن المفاوضات انطلقت رسمياً يوم 13 تشرين الأول الماضي عندما وقع رئيس الحكومة السابق حبيب الصيد ومفوضة التجارة في القيادة الأوروبية على وثيقة انطلاق المفاوضات. والمُلاحظ أن الأوروبيين لا يستخدمون، مثلاً، عبارة مباحثات استكشافية أو تمهيدية، بل «مفاوضات»، بينما يُصرُ الجانب التونسي على أن الطرفين لم يصلا إلى مرحلة التفاوض. ويُطلق على اتفاق الشراكة المنوي التوصل إليه اسم «اتفاق التبادل الحر الشامل والمُعمق» الذي يُعرف اختصاراً ب ALECA، وهو يشمل قطاع الزراعة والخدمات والاستثمار، أي المجالات التي لم يشملها اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي في 1995. لا ريب في أن اتفاقاً يفتح السوق التونسية أمام تدفق المنتجات الزراعية والخدمات والاستثمارات من أوروبا، المُتفوقة في كل المجالات، سيُزعزع أركان الاقتصاد التونسي العليل ويُوجه ضربة قاتلة للمُنتجين المحليين في تلك القطاعات. إلا أن الاستمرار في الحماية وغلق السوق ليسا حلا على الأمدين المتوسط والبعيد، في ظل عالم غدا اليوم أصغر من قرية. من هنا، لا بد من أن يستند بتُ الخيار المصيري الذي سيختاره التونسيون إلى رؤية دقيقة لموقع بلدهم الاستراتيجي، والشراكات التي يمكن أن يُقيمها مع الدول والتجمعات التي يرون أن مصلحتهم تكمن في التعاطي معها. وهذا يتطلب تقويماً شاملاً لأداء اتفاق الشراكة الذي مضى على توقيعه أكثر من عشرين سنة، وكذلك قراءة لاتفاقات الشراكة المُماثلة التي أتت بعدهُ. رُبما تكون تونس استثمرت كونها أول بلد متوسطي توصل إلى اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 1995 فحصدت بعض الميزات والحوافز، لكن الأكيد أن البلدان التي أتت بعدها استفادت أكثر من نقاط قوتها وضعفها لتقود المفاوضات بما يُتيح لها تحصيل فوائد أكبر. لذا ينبغي قبل اتخاذ قرار التفاوض، الانطلاق من قراءة المشهد الدولي ومنزلة تونس فيه، لاستجلاء الميزات والفرص التي تُتيحُها لها الثورة الرقمية، فنحن في حقبة تختلف عن تسعينات القرن الماضي. والشركاء المُحتملون اليوم كُثرٌ، منهم البلدان الأفريقية وهي التي يُحقق بعضها حالياً نسب نمو ذات رقمين، والتي تستهلك كل ما يُصدر إليها. كما تشكل البلدان الآسيوية، وبخاصة الإسلامية منها (إندونيسيا، ماليزيا، باكستان...) فضاء يحمل في أعماقه فرصاً كبيرة للاستثمار والتبادل التجاري، على رغم بُعد المسافات. وفي شرق أوروبا والبلقان فرصٌ من نوع آخر، كان يجدر بتونس أن تستكشف كوامنها وتنسج معها علاقات تبادل وتعاون. ثم هناك الغول الصيني الذي غزا الأسواق المغاربية من خلال قنوات التجارة الموازية، وقد يكون الأجدى التوصل معه إلى اتفاق شامل يحمي المنتجات المحلية من المنافسة غير الشريفة. كل هذه العناوين تؤكد أن أوروبا ليست قدراً محتوماً على تونس. طبعاً من السذاجة الاعتقاد بأن التونسيين (أو المغاربة) قادرون اليوم على التفصي من العلاقات التي نسجتها قرونٌ من السلم والحرب بين الجانبين، علماً أن أكثر من 70 في المئة من المبادلات التجارية تجري معها. ولكن ليس منطقياً أيضاً البقاء رهن الرؤية المركزية الأوروبية والتغاضي عما يدور في العالم من تغييرات والاستفادة منها في بناء شراكات جديدة تختلف صيغها وأنساقها عن الشراكات التقليدية مع أوروبا. الخطاب الأوروبي يحُض العرب حضًا على القبول باتفاقات شراكة جديدة أشمل وأعمق من الاتفاقات التي توصلوا إليها مع الاتحاد في تسعينات القرن الماضي، مُعتبراً المخاوف المُعلنة شبيهة بالأصوات الجزعة التي تعالت قبل كل عملية توسيع للاتحاد الأوروبي على طريق الوصول إلى حجمه الحالي (28 عضواً). لكن هذا الخطاب يتناسى الفوارق بين حجم الدعم الكبير الذي أغدق على البلدان المُرشحة للعضوية، مثل البرتغال وكرواتيا وبلغاريا وسلوفينيا، والثمرات العجاف التي سيحصدها التونسيون من «اتفاق شراكة شامل ومُعمق» مع الاتحاد، هذا إن حصدوا شيئاً ولم تكن الحصيلة «حصاد الهشيم». وأظهرت دراسة أعدها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات (مقره في تونس) حول اتفاق الشراكة الشامل والمعمق أنه لكي يستطيع القطاع الزراعي المحلي امتصاص تداعيات تحرير التبادل مع أوروبا، ينبغي أن تُحقق الصادرات الزراعية نمواً سنوياً بنسبة 8 في المئة، وهو أمر مستحيل. أما في قطاع الخدمات فينبغي أن تنمو الصادرات بنسبة 15 في المئة سنوياً، من خلال زيادة سنوية في الإنتاجية تُقدر ب7 في المئة. فهل هذا ممكن؟ ليس من المبالغة القولُ إن تونس تقف اليوم في مفترق شراكات عديدة تمنحُها فرصاً مختلفة ومتفاوتة، على رغم إكراهات التاريخ والجغرافيا. لكنها تتعاطى مع هذا الموضوع المصيري في مناخ سياسي مُختلف عن السياق الذي اكتنف التوصل إلى اتفاق 1995، إذ تم آنذاك تغييب المجتمع المدني والنخب السياسية والاجتماعية عن المفاوضات، ما أضعف جانب المفاوض التونسي، ولم يترك له مساحة كبيرة للمناورة والضغط. ولا ينبغي أن تتحول حصص الاستماع لمُكونات المجتمع المدني الجارية حالياً إلى نوع من تنفيس الاحتقان في سوق عُكاظ اقتصادية، من دون أي تأثير في تقوية ملف المفاوض التونسي. وقد أظهرت المناسبات التي طُرح خلالها هذا الموضوع على بساط البحث والمناقشة أن غالبية المتحدثين تجنحُ إلى الحذر، إن لم يكن إلى التوجس والتشكيك. وهذا ما يؤكد مجدداً ضرورة التريث في إطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وإعطاء الفرصة للنخب التونسية لكي تناقش، ربما لأول مرة، المنزلة التي تختارُها لبلادها، انطلاقاً من موقعها الجيوستراتيجي وإرثها الحضاري. * إعلامي وكاتب تونسي