بقدر ما يستفزّنا، نحن اللبنانيين، الخرابُ الذي نشهده كشريط سينمائي مروع ومعطوب ومشوش، تستفزنا صلافة الحكام اللبنانيين، ولا مبالاتهم وسلبيتهم المفرطة التي لا تعزى، بالضرورة، إلى «تركيبة النظام»، أي إلى أسباب خارجة عن أخلاقيات الحكام وطبائعهم وقراراتهم وإرادتهم. نعم... منطق النظام اللبناني، الاستثنائي التكوين، عبثي، مفكك، هجين. ولكن المشكلة تكمن في تحويله إلى شماعة تعلق عليها ارتكابات الحكام وخطاياهم، الأمر الذي يجيز تبرئتهم، بل منحهم أعذاراً تخفيفية، ما لم تكن محلة! ثمة شخصيات سياسية، لبنانية عبرت تاريخ النظام اللبناني، وكانت أقل فساداً ولا مبالاة وتحفزاً للتخريب والتعطيل والتدمير، بما لا يقاس، ومنهم من هجس بالبناء والتطوير في ظل هذه الأعطاب. تدار البلاد وكأنها شأن خاص، من دون مرجع قانوني، أو على الأقل أخلاقي، ويتلو غياب المرجع الأخلاقي غياب الشعور بالمسؤولية، تلك المتوقعة من إنسان حر يدرك صلاح فعله أو شره، ويدرك تبعاته. إن الواجب الأخلاقي يسبق السياسي ويعلو عليه. الحق السياسي في لبنان هو حق فردي، سلطوي، علوي، وليس حقوقاً جمعية مشتركةً. والخير ذاتي، لا موضوعي، هو السبيل إلى ملذات ومنافع شخصية، تدمر موضوعية الخير، فلا يتمايز الإيجابي عن السلبي، ويكونان سواء بسواء، وسيّان. هي أخلاق سياسية هدفها اللذة والمنفعة الذاتيتان، فطرية، تقرن الفطرة بالعقل، ولا تكترث بمستلزمات الاجتماع والمصلحة المشتركة، ولا تترتب عليها عواقب الألم، والأذى، والضرر بالآخرين، هي شهوات تعمي الأبصار وتصم الأسماع وتعطل الأحاسيس. إنها قضية أخلاقية أيضاً، ونحن بتنا نستصغر تناول الأفعال السياسية من باب الأخلاق، ونحيل، براغماتياً، الحلول التغييرية إلى ميزان القوة، ولا نجيز البحث في القيمي والرمزي، فيما الرمزي الأخلاقي كامن وراء أي سعي إلى التغيير وتعديل موازين القوى، أي في الفعل المضاد. إن غياب الموانع الذاتية التي تضبط الشهوات المنفلتة من عقالها، هو إعلان عن تلاشي «الضمير»، وهذه اللفظة يندر استعمالها، حتى باتت تبدو «مهجورة المعنى» archaque، ولكن، لا بأس من نفض الغبار عنها، لأنها أضحت موضوع رهان ملح بغياب الروادع الخارجية، القوانين، مؤسسات المحاسبة، الانتخابات الديموقراطية، الإعلام المحايد، إلخ. يلخص مصطلح «الضمير» المنظومة الأخلاقية العامة للعدالة ورديفها «الحق»، وهو «وعي أخلاقي» يجعل المرء يميز بين الشر العام والخير العام، ويقوم على محاكمة الذات ومحاسبتها كقاض، ويغير السلوكات والنيات، وفق معايير الأخلاق والواجبات. ويتمظهر «الضمير» في ثواب زمني، هو رضى وشعور بالابتهاج، وفي عقاب، هو تأنيب أو مسرة، وندم، ومشاعر بالفشل، أو الخجل، وما إلى ذلك. يوقظ الضمير، الصراع بين الواقع والمتوقع أخلاقياً، إنه «الأنا الأعلى» في صراعها مع «الهو»، أو البحث عن اللذة والمتعة والمكاسب الإضافية، من دون قيد أو شرط. في غياب «الأنا الأعلى»، أو الضمير، نحن أمام مخلوقات تحول خيرها إلى خير مطلق، غير خاضع للتقويم والمقارنة وإعادة النظر. أمام «وعي خاص» منفصل عن «وعي الجماعة». وعن الوعي العام. لعل هذه الظاهرة النفسية التي تضم الأنساق الاستبدادية تعود إلى ما يسمى في علم النفس «مرض السلطة». نعم، ثمة مرض نفسي معترف به اسمه «مرض السلطة»، يصيب الحكام والقادة، ويتسم بالنرجسية والصلافة والادعاء والأنانية وعبادة الذات والتلاعب بالآخرين والكذب واحتقار الغير والشعور بالعظمة وفقدان القدرة على الإنصات للآخرين، إلخ. نحن إذاً أمام أناس تبلد إحساسهم بالآخرين المحكومين، وغادرهم الشعور بالفشل والإيذاء، الذي يجلب الندم والتأنيب الذاتي والوجع. وإذا سرنا بالمنطق ذاته، غادرهم الشعور بالرضى والابتهاج المتأتيين عن التضامن مع الآخرين، والوعي بهم، وباتوا مصابين بداء السلطة، وداء العظمة، الذي يعطل سائر المشاعر، سوى مشاعر ملذات مريضة. تحتاج الدول السوية إلى شعور حكامها بالمسؤولية، وإلى إدراكهم، إدراكاً عميقاً، حقوق الجماعة والوعي بها، إلى إدراك «العام» وتقديمه على الخاص، إلى حكام يرتقون من مرتبة الملذات الفطرية البدائية إلى تلك المكتسبة، بفعل الوعي بالآخرين المحكومين، واحتياجاتهم، واحتياجات الدفع بالعام نحو الأفضل. هي تحتاج إلى حكام يتوجعون ويحاسبون أنفسهم بوجود القوانين ومن دونها، لأن القوانينَ وحدَها لا تضع المنظومات الأخلاقية. لكن هذه الأوجاع غريبة على «مرض السلطة» الذي يحتاج، على ما يبدو، إلى علاجات جراحية. * كاتبة لبنانية