«انسباير» أو «وحي» هو أحدث أصداء موقع «صدى الملاحم» التابع لتنظيم «القاعدة» وآخر ما تفتق عنه إعلامها الالكتروني مع فارق انه موجه في شكل أساسي إلى الناطقين بالإنكليزية من جهاديين حاليين وآخرين طامحين للحاق بركبهم. ويحمل الموقع شعار «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» الذي اتخذ من اليمن معقلاً له، إلى جانب علم «صدى الملاحم» الأسود ما دفع المراقبين إلى الاعتقاد أنه ثمرة خيال الشيخ اليمني الأصل أنور العولقي الذي يعتقد انه في جبال شبوة اليمنية ويتقن الإنكليزية جاعلاً من تجنيد الغربيين مهمته الاولى، كما سبق و «أوحى» لكل من النيجيري عمر الفاروق والمجند الاميركي الفلسطيني الاصل نضال حسن بما أقدما عليه من محاولة تفجير طائرة «نورث ويست» وإطلاق النار على جنود في ثكنة فورت هوود الاميركية. و «انسباير»، كأي موقع تفاعلي يستقبلك في صفحته الاولى بعدد من العناوين «الجذابة» منها مثلاً مقابلة «حصرية» مع الإمام العولقي ورسالة من اسامة بن لادن عبر نائبه أيمن الظواهري، وتدريب عملي ومبسط على إعداد القنابل بعنوان «كيف تحضر قنبلة في مطبخ والدتك» وآخر يحاكي تصنيف المراحل الجامعية «مجاهدين 101»، إضافة إلى زاوية تستقبل رسائل القراء وتعليقاتهم. ولولا عثرة تقنية، لا تسمح بفتح إلا 3 صفحات من أصل 64 يتكون منها الموقع، لكان «انسباير» موقعاً شبابياً وتفاعلياً بامتياز. ولكن يبدو أن هذه الصفحة الإلكترونية لا تعاني فقط من مشكلة تقنية في التشغيل عزاها البعض إلى صعوبة في التحميل أو فيروس الكتروني، بل هي تعاني أيضاً من ضعف في المضمون والمحتوى. ذاك ان اللغة الانكليزية المستعملة فيها من الركاكة والتفكك في الصياغة ما يبعدها عن الرسائل المعهودة ل «القاعدة»، حتى ان الصحافة الاميركية وصفتها بأنها «مدعاة للسخرية» وشككت في صدقيتها. والواقع أن المراقبين الغربيين وقعوا في خطأين عندما نسبوا الموقع للعولقي. فهو من جهة بدأ سيرته الجهادية على الشبكة العنكبوتية وبالتالي مهما كانت صعوبات تشغيل موقع الكتروني من اليمن حيث البنية التحتية المعلوماتية غير مؤهلة لإطلاق موقع ضخم، يبقى أن شخصاً مثله قادر على إيجاد ضالته عبر الشبكة واستخدامها أفضل استخدام بما توفر. ومن جهة أخرى، العولقي مولود في أميركا ودرس في أفضل جامعاتها وعندما ظهر على الساحة الجهادية، نصّب نفسه شبه سفير ل «القاعدة» لدى الناطقين بالانكليزية قبل العربية. فتوجه إليهم في جامعات النخب الاميركية والبريطانية، والمساجد وعلى المواقع الالكترونية مستخدماً لغة أكاديمية رفيعة ومستعيناً بقدرة كبيرة على الحوار والإقناع. لذا ما تشي به الثغرة اللغوية قبل التقنية هو أن العولقي ليس بالضرورة وراء الموقع ولا المشرف المباشر عليه، من دون أن يعني ذلك في الوقت نفسه أنه تبرأ أو قد يتبرأ منه. بل على العكس ربما يتبناه كما يحدث عادة مع «القاعدة الأم» وفروعها من الخلايا التي تنشأ في البلدان عبر ما بات يعرف بال «فرانشايز». فإذا كانت عملية محلية صغيرة تحمل بصمات «القاعدة» وتوصل فكرها في بلد ما، لا تتردد المنظمة الأم من تبني أعضائها ونشاطهم وإن لم تساعدهم مباشرة في التخطيط والتدريب والتسليح. وهو على كل حال ما شهدناه في عدد من العمليات والبلدان من العراق إلى افغانستان والصومال ولبنان والفيليبين وغيرها... فلمَ لا ينطبق ذلك على موقع الكتروني خصوصاً إذا كان يستقطب جنوداً لسلاحها؟ أما الخطأ الثاني فهو وصف الموقع بأنه الإعلان الاول الصريح والمباشر عن رغبة «القاعدة» بتجنيد غربيين، وان الموقع هو الاول الذي يتوجه إلى الناطقين بالانكليزية مفصحاً عن تلك النية. فصحيح ان «صدى الملاحم» نفسها لم تنشئ موقعاً «رسمياً» بالانكليزية قبل «انسباير» (في حال صح التوقع بأنه تابع لها) إلا أن الرسائل الأخيرة ل «القاعدة» عبر قادتها المباشرين أو الناطقين باسمهم، تعلن وتؤكد أن الساحة المقبلة للجهاد هي في شكل أساسي الغرب وهذه المرة بسواعد مجاهدين غربيين. وترسخت هذه الفكرة أكثر مع تجنيد فيصل شاه زاده الذي حاول تفجير ساحة «تايم سكوير» في نيويورك وحتى نضال حسن، مع العلم أنه سبقهما إلى الجهاد الغربي عدد من الأفراد والخلايا في أوروبا وأميركا. أما على مستوى النتاج الإعلامي والإعلاني لتنظيم «القاعدة»، فنادراً ما خلت التسجيلات المصورة لأيمن الظواهري وبن لادن من ترجمة انكليزية منذ بداية عهدهما ب «البروباغاندا» الحربية. ولعل أبرز اقتباس يمكن أن يسجل للظواهري في هذا السياق، قوله في تموز (يوليو) 2005 «نحن نخوض حرباً نصف معاركها يدور في ساحات الإعلام... إنها حرب على كسب قلوب الامة وعقولها». والعولقي نفسه أنشأ موقعه الخاص وصفحته على «فايسبوك» بالانكليزية إضافة الى «تطوعه» لترجمة مختارات من نصوص القادة ورسائلهم وغيرها من أدبيات «القاعدة» إلى المجاهدين الجدد قبل ان ينصب نفسه مرجعاً لهؤلاء. أما كولين لاروز او «جهاد جاين» «القاعدية» الاميركية الاولى، فاستقطبت «مواطنيها» بلغتها الام، وجندتهم على الشبكة بعد أن كانت استقدمت هي أصلاً لهذا الدور. ولا ننسى في هذا السياق الترجمات الانكليزية لمكتبة أبو محمد المقدسي، وهي تعد واحدة من عشرات اللغات التي نقلت اليها أعماله المتوافرة أيضاً على الانترنت. إذاً، ليس جديداً على التنظيم «البراغماتي» الذي هو «القاعدة» ان يتوجه إلى غير الناطقين بالعربية ولا هو محض صدفة. فشركة «السحاب» مثلاً أنتجت وفي وقت مبكر جداً منذ مطلع 2004 عدداً من التسجيلات والاشرطة المصورة لآدم بيرلمان الذي أطلق على نفسه لقب «عزام الأمريكي» نسبة إلى موطنه الاول تحدث فيها بلغته الانكليزية مع ترجمة خطية بالعربية. واعتبر بيرلمان، لفترة غير قصيرة من الزمن بمثابة «الموفد الإعلامي لدى الغربيين» و «الناطق الرسمي بالانكليزية للقاعدة». وفي أول التسجيلات المصورة له، بدا الجهادي الاميركي وهو يمزق جواز سفره ويوجه تهديدات مباشرة للولايات المتحدة ويحذر مواطنيه من دعم حكومة الرئيس السابق جورج بوش. وفي آخر تسجيل له، الذي يعود إلى حزيران (يونيو) الماضي، توجه «عزام الأمريكي» الى الرئيس باراك أوباما وهدده بقتل مزيد من الاميركيين منتقداً استمراره بتطبيق سياسات بوش والتدخل العسكري في افغانستان واليمن وباكستان والصومال. ذلك إذاً، مؤشر إلى أن «القاعدة» التي أدركت منذ يوم صعودها أهمية الإعلام في إيصال رسالتها، لم تتخلَّ يوماً عن استقطاب غربيين الى صفوفها. وببعض الخبث ربما، يمكن ملاحظة منافسة ضمنية بين العولقي وبيرلمان. فمع بدايات صعود نجم العولقي وانتشار رسائله وتسجيلاته عبر الشبكة، بدا كأنه يبعد بيرلمان عن الواجهة الاعلامية «الغربية». وبالفعل غاب بيرلمان لفترة من الزمن وانتشرت أخبار عن سجنه ثم مقتله، تبين أنها غير صحيحة بفعل التسجيل الأخير له... وعلاقة محتملة بموقع «انسباير». فبالنظر إلى خلفية «عزام الاميركي» الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتواضعة، يتبين أنه غير قادر على تسطير لغة أسلم وأصح مما جاء في الموقع الجديد. فهو من تلك الفئة البيضاء المهمشة التي تعزل نفسها في غرف الدردشة الالكترونية بانتظار أن تجد لنفسها ركناً تنتمي اليه وجماعة تشكل هويتها عبرها. وبالنسبة الى بيرلمان، كانت البيئة الجهادية في افغانستان هي تلك الحاضنة المعنوية التي انتقل للعيش فيها في أواخر التسعينات، بحجة أنه مراسل صحافي. وساد اعتقاد راجح أنه استخدم خبراته «الصحافية» لتشغيل شركة «السحاب» وانتاج الافلام الدعائية ل «القاعدة» في وقت مبكر جداً قبل ان يتحول هو احد نجوم هذه الافلام. لذا يبدو اقرب إلى التصديق ان «عزام الأمريكي» هو المعني الرئيس ب «انسباير» إن لم نقل واحداً من المعنيين. وإذا كان من غير الممكن الجزم بصحة هذه الفرضية ولا بمكان تشغيل الموقع سواء في جبال اليمن حيث يقيم العولقي او في جبال باكستان حيث يقيم بيرلمان، إلا ان «انسباير» على أهميته يبقى تفصيلاً في سياق حرب إعلامية شنتها «القاعدة» منذ زمن طويل... وأتقنتها.