تهيمن على المواطن العربي منذ خمسة أعوام وفي شكل مكثف أخبار المواجهات الطائفية بين السنة والشيعة في عدد من الدول العربية، أهمها العراق وسورية واليمن ولبنان. يحاول كل طرف أن يحشد كل ما لديه من أدوات قتل وتصفية ليستخدمها ضد المقابل من دون تمييز بين صغير وكبير أو رجل وامرأة أو محارب ومسالم، مع استدعاء المعارك التاريخية قبل ألف عام وإسقاطها بشعاراتها ورموزها على الحالة الراهنة، وهذا النبش في الماضي يُستغل لأجل استعادة معارك الانتقام وإذكاء الثارات، وغالباً ما تقطع هذه الصدامات العنيفة كل جسور التواصل والبحث عن حلول السلام. ومع كل البشاعة التي تنقلها شاشات الأخبار عن الفلوجة وتعز وحلب والرقة ودير الزور، نتساءل هل لا يزال هناك أمل في عودة الأمن والاستقرار لربوع بلادنا العربية؟ وهل ستنتهي هذه المواجهات بمنتصر غالب يسود فوق الجميع؟ ولأجل هذه السؤالات المحيرة أضع بعض الرؤى في النقاط التالية: أولاً: المواجهات الطائفية اليوم لو كانت مبنية على خلاف ديني في مسألة معرفية أو كانت على أساس تنافس حول منصب أو مرجعية معينة لهان الخلاف ولأمكن الحل بطرق كثيرة، ولكن المواجهات بين السنة والشيعة اليوم أكبر من تصنيفها كخلافات جزئية وحتى دينية؛ بل أصبحت مواجهة بين مشاريع سياسية اجتثاثية، تسعى لإحداث تغيير ديموغرافي وتهجير شعوب والقضاء الوجودي على مذهب أهل السنة داخل الحواضر، التي كان فيها سائداً معظم التاريخ. يرعى تلك التصفية الوجودية جنرالات الحرب الإيرانيون، ومن سار في فلكهم بحثاً عن النفوذ والعودة لعصر الامبراطوريات الكبرى. هذه النزعة اللاإنسانية والمخالفة لمواثيق الأممالمتحدة والإعلانات الحقوقية، تحظى اليوم برعاية الدول العظمى وصمتها المطبق عن كل المجازر والانتهاكات الصارخة ضد الإنسان والأرض، وهذا ما يشكّل حالة إحباط بين الجميع، ونزوعاً نحو التحول لفوضى عارمة تدمر كل شيء أمامها من دون أي أمل في المستقبل، لذلك يشعر المتابع العادي أن هيمنة السياسات التوسعية على المشهد الطائفي ليست لأجل المذهب ولا نصرةً لاتباعه؛ بل لأنها تحقق أهداف المرحلة لإيران الحالمة في النفوذ الإمبراطوري، وكذا للغرب الحالم في إجهاض كل حلم إمبراطوري يعود للمنطقة سوى حلمه التوسعي من خلال التفكيك الخلّاق!! ثانياً: المواجهات الطائفية الراهنة معقدة في شكل مؤسف ومخيف جداً، لأنها تحركت على تغيير طبيعة الحدود، وأورثت جيلاً يطالب بالثأر بغض النظر عن دوافعه، وتنامت تلك الصراعات في وقت الثورات التقنية والبرامج التواصلية المتنوعة التي تجعل الجميع حاضراً ومتابعاً كل المواجهات ولو كان جسده في أرض بعيدة. أمام هذا المسرح الكئيب الذي يمارس فيه الكبار لعبة تحريك الدمى بخيوط السياسة من الخارج، وتسييّل أنهار الدم بلا توقف، يثبت بما لا يقبل الشك أن أطراف النزاع جميعهم خاسرون؛ بل يحفرون قبور مجتمعاتهم بأيديهم، وليس هناك مستفيد من تلك الفوضى المدمرة سوى أصحاب المصالح الاستراتيجية، المنتفعين من بقاء الوضع محموماً في المنطقة، ولتبقَ الحروب عقوداً من الزمن، فهذا لا يهم! حتى يأتي الملهم الماكر لينقذ البقية المنهكة ويحملها على أسوأ خيارات البقاء والتبعية. إن إخضاع المنطقة لخيار الرضا بالهيمنة الإيرانية المتطلعة لهلال دموي مشؤوم سيزيد من الصراع، ويضع المزيد من القطط الأليفة في كيس مغلق لتتحول إلى أسود كاسرة تفني بعضها بعضاً بوحشية، أعرف أن تاريخ الأنظمة التوسعية التي قادها نابليون وهتلر وموسيليني وستالين وغيرهم يعيد نفسه في ذات العقليات التي لا تريد أن تتيقظ إلا عندما تنفد خزينة السلاح أو تجر إلى مقصلة الموت، ولن يجدي مع إيران صوت العقل ولا منطق القوة التي أصبح عرّابوها في رضا تام بالدور الإيراني في تقويض المنطقة للمشروع القادم. ثالثاً: هذا المشهد المؤلم من الصراعات التي تتنامى ويراد لها الانتشار قدر المستطاع، ماذا يمكن عمله تجاهها؟ ومن هم القادرون على إحداث التغيير في تلك المناطق المحتدمة بالصراع؟ ومن خلال آلية السبر والتقسيم (وهي طريقة أصولية عقلية للبحث عن المناط الأقرب للحكم على الواقعة الجديدة) بقصد تحديد القادر على التغيير، نعرض أهم الفاعلين في المشهد وهم: الساسة، ورجال الشريعة والدين، والاقتصاديون، والمثقفون، ومؤسسات المجتمع المدني، ولتحليل مواقفهم لمعرفة قدرتهم على التغيير الإيجابي، نبدأ بشكل موجز بدور السياسي، وهو الذي نجده في قلب الأحداث وأحياناً هو الضالع الأبرز في مختلف الجرائم والمغذي لاستمرارها، فالاتكاء على دوره في المعالجة ركون لجرف هار، أما الدور الاقتصادي المغري بالتعامل لقوته المادية فنجده أسرع الخيارات هرباً عن الفعل الصالح إذا لم تكن فيه مصالح، وطبيعة أرباب المال يهربون مع أموالهم الخائفة عند أي توتر، أما رجال الفقه والدين في الطوائف فحضورهم الواقعي لا يعالج الصراع الحالي؛ بل خطابهم كثيراً ما يعمم الشر ويرمي بالتهم ويسهم في بقاء الصراع إلا من رحم الله، يبقى المثقفون كحالة ممكن تعليق الأمل عليهم، ولكنهم في أزمنة مضت خرجوا كفاعل للتغيير نحو فعل الأسوأ من الأحوال، كما في عصور القومية والبعثية والناصرية وغيرها، لأن كمية الأدلجة التي ارتموا فيها هوّنت عليهم ممارسة البغي السياسي والسعي في الركوب على الأفكار كمطيةٍ للنفوذ القهري على المجتمعات. تبقى مؤسسات المجتمع المدني غير المؤدلجة، فهي - من وجهة نظري - أمل التغيير نحو الأفضل، لأن المجتمعات المكلومة تحتاج إلى من يعمل معها ولها، أكثر ممن ينظّر ويتفلسف، وتحتاج إلى من يعمل من دون أجندة خفية أكثر ممن يعمل في الأحزاب السياسية ذات الواجهات الإنسانية الخادعة، كما أن الفاعلين في غالب تلك المؤسسات هم من الشباب الراغب في مستقبل أفضل لهم ولأجيالهم القادمة، فإصرارهم على النجاح يعزز من أمل الرهان عليهم. رابعاً: هذه الحالة الرهيبة التي تصيب الأقطار العربية، خصوصاً بلاد الشام والرافدين، تبعث الأسى من إصلاح متوقع في المستقبل، ومع هذا الظلام يمكن أن يكون هناك نور في آخر النفق، فالحروب الدينية ضربت أجزاء كثيرة من العالم، ثم أصبحت من الماضي الذي ذهب. لن نجبر السياسي على ترك لعبة القتل البارد ولن نغير قناعة الدول الغربية بشناعة ما يمكرون به، ولكن نستطيع أن نحرر الفرد الضحية من هيمنة الأيديولوجية الطائفية ببناء جسور فكرية مشتركة في عالم أكثر تصالحاً مع الحياة والإنسان، يمكن أن نفتح عيني الفرد المدفوع نحو حروب ومواجهات لا دخل له بها ليرى في لحظة تجلّ عِظَم الهوّة التي يمشي نحوها، كما يجب أن لا نفقد الأمل في أن الحب والتسامح والرغبة في الأمان والاستقرار هي الأصل الذي فُطر عليه الإنسان وأن تعزيزها والدعوة إليها أقرب من خيار المعاكسة نحو الرغبة في الموت والقتل، كما نستطيع أن نزيل خطاب التحريض والاصطفاف الذي غرس الخوف من الآخر في نفوس الأتباع البسطاء؛ بالتأكيد أن الخوف الحقيقي يقع في التماهي مع دعاة الضلالة والعدوان وليس في التصالح مع شركاء الأرض والحياة، فخطاب المرحلة الراهنة لمن يروم التجديد والإصلاح يجب أن يكون خطاباً تشاركياً يبحث في الكليات الجامعة والمقاصد الكبرى لأنها مكمن العلاج وبها ننزع فتائل الاختلاف والعدوان، وكلما كانت التنمية ومشاريعها حاضرة في اهتمامات المكونات المتصارعة كلما خفت وتلاشت تلك الصراعات نحو الحاجة لبيئة آمنة كمتطلب للرفاه والرخاء، وما تصالحت الهند وماليزيا وجنوب أفريقيا إلا بعد أن أصبح خيار التنمية الواعدة غاية الجميع. خامساً: هناك عدد من الدول العربية، خصوصاً دول الخليج، تعيش فيها طوائف وأقليات دينية، وهي لم تتحول بعد إلى مواجهات ميدانية، وبالتالي فالحاجة للحذر من انتقال الحريق الطائفي إليها يجب أن تكون شديدة والمبادرات سريعة، لمنع وصول أي شرارة قد تشعل المجتمع في فتنٍ تأكل الأخضر واليابس، والمملكة العربية السعودية بما لها من حضور دولي وإقليمي ومكانة دينية محترمة عليها مهمة وأد كل أسباب الطائفية في المنطقة الآمنة ومنع كل قنوات التحريض الإعلامية والمنابر الانتهازية، مع تشجيع المبادرات الداعية للوئام المجتمعي وفق حقوق المواطنة وحفظ المكتسبات القائمة، وستبقى هناك أصوات خارجية وأجنبية تنعق بالزيف وتختلق الفتنة وتستخدم القوى الإعلامية الناعمة والجديدة لبث الفرقة في مجتمعاتنا الخليجية والعربية، فهؤلاء لن يُمنعوا بقرار أو بإغلاق الحدود عنهم، وإنما يُقمعون ويُهزمون عندما نعطي دوراً أكبر لبناء الوعي وتأسيس منهج النقد وتحصين الفكر، خصوصاً لدى فئة الشباب. وختاماً: يجب أن نبني جسور العلاقة بين مكونات المجتمع على أساس الثقة المتبادلة ووفق حقوق المواطنة مهما كلف الأمر، لأن مستقبلنا جميعاً يقع في مركب جامع يخوض غمار بحرٍ هائج بالأمواج العاتية، وإذا كانت هذه الأزمة لا تجمعنا فمتى نجتمع؟! * كاتب سعودي