أستاء كثيراً عندما اضطر للاتصال بها يبكيني ويوجع قلبي ما أسمعه من كلمات جميلة وضعتها بكل حرص كنغمة انتظار على جوالها الخاص، كلمات تصرخ شوقاً إلى حضنها وسماع صوتها أو رؤيتها، أما العيش معها فهو حلم مستحيل بل من سابع المستحيلات، قد لا يكون خطر أصلاً على بالها المشغول باللهفة والشوق إلى أمها التي حُرمت منها وما زالت منذ حوالى 14 عاماً! اسمها لا يهم كثيراً، فمثلها الكثيرات يعشن غربة ما بعدها غربة، وعذاباً ما بعده عذاب! تعيش مع والدها وزوجته الرابعة تلتحف الحرمان، تنهض معه وتنام معه، هداها تفكيرها الخصب إلى سماع اقتراحي الواهن برسم صورة أمها على جدران غرفتها خلف لوحة كبيرة تزيلها كل مساء بعد أن تقفل على نفسها باب غرفتها تهرع لتحضنها وتبكي على كتفيها وتتخيلها تسألها ماذا تلبسين؟! وماذا فعلت بك السنون؟ وماذا تناولت اليوم؟، وهل ما زلتِ تتذكرينني؟ لساعات طويلة تتحدث معها تحكي لها وأحياناً يفيض دمعها شوقاً لها وكثيراً من الأيام تغضب منها، لأنها تسألها أسئلة منطقية لا ترد عليها: «لماذا لا تجيببن؟» وبعد أن تهدأ تهرع لتقيبل رأسها، وهي تعتذر لها «سامحيني يا أمي، أعلم يا مهجة القلب أنك لا تملكين أجابات لأسئلتي المتزاحمة»، ترسم يدها بلون أبيض وتظل تقبلها حتى يغلبها النوم فتنام وهي تحتضن يدها المبللة بالدموع. تستيقظ لتستقبل يوماً جديداً لعمر غض (لم تعشه) وفي القلب شوق للقاء المساء مع والدتها.. وتظل يومياً تنظر الى وجه والد لا يعي معنى وجود الأم في حياة بناتها، وفي عينيها المثقلة بالدموع ألف سؤال وسؤال: لماذا يا أبي أُحرَم منها وهي على قيد الحياة؟ لماذا يا أبي تتوق لأمك ولا يخطر ببالك أنني مثلك تماماً أحلم بالارتماء بين أحضانها الدافئة لأسمع دقات قلبها ولأستشق حناناً يغنيني عن الدنيا وما فيها؟ لماذا لا تسمح لي بالاتصال بها وسماع صوتها والاطمئنان عليها؟ ولماذا لا تستجيب لكل نداءات من حولك؟ ولماذا تظل أمي تجوب على المحاكم تتوسل حكم رؤيا حقيقياً (ينفذ) قبل أن تمضي سنوات العمر الحزينة من دون أن يتحقق ذلك؟ ولماذا يصمت المجتمع إزاء هذا الظلم الفادح؟ ولماذا تنام أمي يومياً والدموع تحرق وجهها بعد أن حفرت عليها الأيام أخاديد حزن ولوعة وشقاء؟ سؤال مهم تتركينه لي يا ابنتي بعد كل اتصال موجع بيننا: لماذا يصمت المجتمع؟ وتتركينني وألم كبير يستقر داخل قلبي يحفزني لأتذكر المريض البالغ من العمر 50 عاماً والذي عاني كثيراً من مرض الإدمان وتعافى منه قبيل وفاته بستة أشهر فقط عندما ظل يبكي ويبكي حين سألته ذات يوماً عنها (والدته) فأذهلني بل هالني ما رأيت وما سمعت عندما ظل يبكي وأغرقت لحيته دموعه وهي يحكي ذكريات مرت قبل أكثر من 40 عاماً وظل يحكي بصوت مرتعش عن يوم عاد من المسجد ولم يجد أمه وعلم من جدته أنها طُلقت فجأة وطُردت من المنزل وكيف أنه ظل يسأل عن مكانها لسنوات طويلة والأب يرفض الإفصاح عن مقر عائلتها وكيف أنه كان يسأل ويسأل حتى اهتدى إليها عن طريق إمام الحي الفاضل وكيف أنه كان يمشي بغير هدى ولمسافات طويلة حتى يلمحها أو يراها وعندما وجدها ارتمى في حضنها يبكي كطفل صغير على رغم أنه كان رجلاً يبلغ من العمر 50 عاماً! اليوم أجدك تعيشين الوجع نفسه والألم ذاته يا ابنتي (التي لا أعرفها) والتي أشعر بها والتي أعلم أنها استمعت إلى كلماتي المنكسرة عندما اقترحت عليها بكل وهن وضعف أن ترسم صورة والدتها على الجدران... فهو حل موقت ريثما يقضي الله أمراً كان مفعولاً ونفيق من غفلتنا التي طالت! [email protected]