أن تكون مواطناً لا يتعارض مع كونك مسلماً أو مسيحياً. وأن تكون مؤمناً لا يتناقض مع كونك مواطناً صالحاً. وأن تكون متديناً لا ينفي كونك مواطناً قابلاً وقانعاً بنعمة التنوع. لكن أن تكون مواطناً كهذا في مجتمعات ينبذ بعضها فكرة الاختلاف، ويخاف بعضها الآخر من مفهوم الانتماء لوطن بالإضافة إلى الدين، فهو ما يحتاج تعليماً تربوياً في المدارس يؤهل المعلم أولاً لفكرة المواطنة والعيش في مكان واحد مع آخرين من ذوي عقيدة مختلفة لكن هويات متشابهة. وفي زمن القتل على الهوية الدينية، وإعادة تقسيم بلدان وأمم بناء على الطوائف، وبزوغ قيم التطرف والتشدد وخفوت معاني القبول والسماحة، واعتبار التنوع نقمة وآفة يجب القضاء عليها وليس نعمة وقيمة مضافة ينبغي استثمارها والانتفاع بها، تبدو فكرة تعليم ديني موجه لتعزيز المواطنة الحاضنة للتنوع أشبه برابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي. لكن الخل الوفي لقيم العيش المشترك والمواطنة والقيم الواحدة على رغم اختلاف الدين والطائقة ما زال على قيد الحياة والتفكير والخروج بأدلة تربوية تعزز «دور المسيحية والإسلام في تعزيز المواطنة والعيش معاً» وذلك ضمن برنامج أشمل وأعم عنوانه «التعليم الديني لتعزيز المواطنة الحاضنة للتنوع». هذا البرنامج يبرز الدور الذي يتوجب على الأديان المختلفة أن تلعبه، من خلال قيمها المشتركة والتربية عليها، من أجل تعزيز المواطنة والالتزام للعيش معاً، وذلك للحفاظ على الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي, وهي الرسالة التي حملتها مؤسسة «أديان» (مؤسسة لبنانية للدراسات الدينية والتضامن الروحي) فأطلقت مثل هذا البرنامج الذي يجري بالتعاون مع مؤسسة «دانميشون» الدنماركية، وبتمويل من برنامج الشراكة الدنماركية العربية. و»دانميشون» هي مؤسسة دنماركية تركز في عملها على تقليل الفقر، والحوار الديني في 12 دولة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط بالإضافة إلى الدنمارك. ويرى القائمون عليها إن عملهم في الشرق الأوسط، لا سيما في لبنان وثيق الصلة كذلك بالمجتمع الدنماركي، لا سيما في ظل زيادة أعداد اللاجئين من المنطقة، والتغير المتوقع في تركيبة المجتمع، والحاجة إلى فهم التنوع وتثمينه والتعامل مع الآخر من باب الشراكة. رئيس مؤسسة «أديان» الأب فادي ضو يقول إن هناك قناعة بوجود ارتباط بين التنوع الديني في المجتمع من جهة والمواطنة وإدارتها من جهة أخرى. وعبر إدارة الخطاب الديني في شكل صحيح يمكن تعزيز مفهوم المواطنة عبر المشروع الذي تنفذه «أديان» هو الأول من نوعه عربياً ودولياً. «للأسف أن قلة وعي المجتمعات نفسها وموجة النازحين الجديدة ومعها موجة التطرف دفعت المجتمعات العربية للاعتقاد بأنها تمثل ثقافة واحدة فقط. والمؤسسات الدينية غير ظاهرة لأنها لم تعتد مثل هذا الوضع حيث جزء من الخطاب يغيب قضايا التنوع تماماً، والجزء الآخر يناقض المواطنة ويثمن العزلة عن الآخر» كما يقول. وعلى رغم أن الأديان يفترض أن لا تتناقض مع مفهوم تعزيز المواطنة، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في المناهج الدراسية والعقلية لتبدو هنا المواطنة وكأنها في عداء مع الدين ومواجهة معه. وبمبادرة من مؤسسة «أديان» وبالشراكة مع المؤسسات الدينية الرسمية من دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ومجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يضم مختلف الكنائس المسيحية، بدأ تأليف دليل تربوي مشترَك يفترض أن يعمم على المدارس. هذا الدليل حول العمل البحثي والفكري إلى مساحة للتلاقي والتعارف وبناء العلاقات بين الخبراء على أساس الثقة المتبادلة في سياق الشراكة في المسؤولية المجتمعية والوطنية. وتقول مستشارة الحوارات في «دانميشون» آغنتي هولم أن الأدوات والأدلة التعليمية المدرسية التي خرجت بها «أديان» عن المواطنة والتنوع يمكن أن تكون مفيدة كذلك في الدنمارك. «علينا أن نتعلم المشاركة والشراكة في كل مكان. علينا أن نستفيد من التجربة والخبرة اللبنانية». ويقول الأب ضو أن الاجتماعات وورش العمل التي جمعت رموز الطوائف المختلفة للوصول إلى تعريف مشترك للمواطنة لم يكن بالأمر السهل. وبعد التداول والنقاش، خرج الجمع بتعريف جامع للمواطنة واتفقوا على مجموعة من القيم المرتبطة بها وهي: الكرامة الإنسانية، قبول الآخر، احترام القوانين والعهود، الأمانة، العدل، الحرية الدينية، الخير العام، التكافل والتضامن، والغفران. ووقع الاختيار على ثلاث منها هي: قبول الآخر، والعدل، واحترام القوانين والعهود. وقد تم العمل على عرضها في مقاربة دينية تربوية. وتم تحديد الفئات العمرية التالية من سبعة إلى تسع سنوات، ومن تسع إلى 12 سنة، ومن 12 إلى 15 سنة، وذلك للتوجه إليها بأنشطة تربوية نموذجية حول هذه القيم، مع مراعاة قدرة الطالب على الاستيعاب والتحليل وفق مبدأ الكفاية. وبالإضافة إلى هذه الدروس، يجري تطوير أنشطة فكرية وتعليمية للبالغين وفق هذه القيم في المساجد والكنائس وذلك كمادة أولية للأحاديث الروحية والخطب والعظات. وحيث إنه في لبنان لا سلطة لوزارة التربية والتعليم على مناهج التربية الدينية أو معلميها، فإن المرجعيات الدينية طرف أساسي في كل تلك الأنشطة والفعاليات. ويوضح الأب فادي أن «أديان» تعمل مع وزارة التربية على تطوير مادتي «التربية الوطنية» و»الفلسفة والحضارات» واللتين تحتويان مفاهيم تقليدية لم تعد صالحة للعصر الحالي. وتشير نائبة رئيس مؤسسة «أديان» وأستاذة علوم الأديان والدراسات الإسلامية الدكتور نايلة طبارة إلى أن المناهج التي تدرس حالياً في المدارس اللبنانية والموضوعة سنة 1997 تتعامل مع التنوع من أحد منطلقين، إما الانصهار ويحمل عدم اعتراف بالتنوع أصلاً، أو التسامح بالمعنى السلبي للكلمة حيث الرأفة والشفقة. تقول: «نريد أن نستبدل الانصهار والتسامح بالشراكة والمشاركة في المناهج التعليمية. نحن نتكلم عن المواطنة الحاضنة للتنوع ونعترف بهذا التنوع باعتباره قيمة مضافة. هذا هو المقصود بالمواطنة الحاضنة للتنوع». هذه المواطنة هي نتاج قبول التنوع ضمن المجتمع الواحد، وتحفيز التفاعل الحضاري بين مكوناته، من خلال اعتباره مصدراً للغنى الجماعي المشترك، واعتبار المواطن الآخر، على رغم اختلافه الثقافي، جزءاً من عملية بناء الذات الفردية والمجتمعية. ويُسهم ذلك في تكوين الثقافة الوطنية الجامعة، وتحديد معالم الهوية الوطنية على المستويين الفردي والجماعي. وتحقيق ذلك مسؤولية الأفراد والجماعات والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني والدولة. وتشير طبارة إلى أن هذه المسؤولية تنفي ما قد يروجه البعض من تناقضٍ بين قيم المواطنة والقيم الدينية، ويسهم في المقابل في تعزيز احتضان التنوع ضمن المواطنة على أسسٍ إنسانية ودينية معاً. وتساعد أيضاً هذه المقاربة على تحرير الأديان من صورة التطرف التي أُلصقت بها بسبب الذين ينتهجون العصبية وإقصاء الآخر ويمارسون العنف باسم الدين. كذلك تُسهم هذه المقاربة في إبراز ما يحتويه التراث الديني من موارد تدعم ثقافة التنوع، وقبول الآخر على اختلافه، وبناء العيش المشترك، وترسيخ السلام والعدل، ونشر روح الأخوة والمصالحة والعيش معاً. وتصدر «أديان» سلسلة من الأدلة التربوية حيث القيم الثماني المتفق عليها. وتحوي دروساً في التربية الدينية المسيحية والإسلامية حول قيم المواطنة والحياة العامة. كما تتضمن أقساماً نظرية وأفكاراً يمكن للخطباء والوعاظ استخدامها لمقاربة هذه المواضيع في الخطاب الديني أو الأحاديث الروحية. كما يحوي ورشاً تدريبية مشتركة للمربين واختصاصيي الشؤون الدينية من مختلف المناطق اللبنانية. وصدرت كلها بشكل دليل للمعلم أو المدرب أو المربي الديني، ويسمح بالاستفادة من مضمونه التربوي في نطاق نشاطه ضمن دائرته الدينية الخاصة، بالإضافة إلى تمكنه من الاطلاع على مضمون المواضيع من الناحية الدينية الأخرى، وذلك لتعزيز الثقافة العامة ومعرفة فكر الآخر وخطابه. القائمون على «أديان» يرون في مثل هذا الكتاب علامة رجاء وبصيص أملٍ في زمن كثرت فيه الصراعات والحروب في المنطقة العربية، وتبحث غالبية مجتمعات المنطقة عن صيغة لإعادة بناء لوحدتها الوطنية على أسس جديدة وثابتة ومقاربة واضحة ومشتركة للمواطنة وقِيَمها.