حين كان يسأل شاب مصري في زمن مضى عن منصب يحلم بأن يتبوأه، لم يكن يقيم أسواراً أو يصطنع موانع بينه وبين حلمه، حتى وإن كان يعرف تمام المعرفة أن حلمه سيظل حلماً لا يرتقي إلى الواقع. «نفسي أبقى وزير خارجية» أو «نفسي أكون رجل أعمال بالغ الثراء» أو حتى «نفسي أكون رئيس جمهورية». كانت هذه هي الإجابات العادية التي نسمعها من الشباب حتى وقت قريب، ولو حتى على سبيل الدعابة. كان الأمر عادياً. لكن غير العادي هو ما أطل علينا عبر تقرير التنمية البشرية الخاص بمصر لعام 2010 الذي صدر قبل أيام. الرسم البياني الذي يوضح اختيارات الشباب المصري في الرد على سؤال «ما المنصب أو الموقع الذي تحلم به» جاء صادماً. خطوط ضئيلة متقزمة تكاد تكون غير مرئية تشير إلى رغبة تبوؤ مناصب رئيس الجمهورية ووزير ورئيس مؤسسة ومنصب دولي ورئيس جامعة وحتى لاعب كرة. وتنمو الخطوط في شكل أكبر قليلاً معبرة عن رغبة أكبر نسبياً في تبوؤ منصب «عضو مجلس شعب أو شورى أو عمدة». أما الخط الأكبر والأبرز فجاء معبراً عن رغبة الغالبية المطلقة «لا أحلم بأي منصب». وعلى من يعتمد الشاب لتحقيق حلمه؟ هناك من يعتمد على نفسه، أو أسرته، أو الدولة، لكن الخط البياني أشار أيضاً إلى أن الغالبية المطلقة اختارت أن «تعتمد على الله». وعلى غير عادة المنظمات الدولية التي تتحسس طريقها جيداً قبل أن تصدر تقريراً قد يزعج نظاماً هنا أو حكومة هناك، جاء تقرير «شباب مصر: بناة المستقبل» مثيراً للإعجاب بجرأته والحسرة لشدة واقعيته. قليلون جداً من الشباب في مصر من سمعوا عن هذا التقرير، لكن الجميع على دراية كاملة بالمشكلات الواردة فيه لسبب واحد ألا وهو أنهم غارقون فيها حتى آذانهم. البطالة هي همهم الشاغل وأكثر ما يعانون منه. التقرير أشار إلى أن نسب البطالة تبلغ أقصى ارتفاع لها بين الباحثين عن عمل للمرة الأولى. أما السبب فهو نظام التعليم الذي لم يزود الكثيرين منهم بالمهارات المطلوبة لسوق العمل. نسب البطالة الأعلى موجودة بين خريجي الجامعات والتعليم الفني، والفتيات الأكثر تأثراً، إذ لا تزيد نسبة مشاركتهن في سوق العمل عن 20 في المئة. المجموعة الشبابية التي التقتها «الحياة» أفرادها ينتمون إلى فئة طلاب السنوات الجامعية النهائية والخريجين الجدد. مصطفى (25 سنةً) تخرج في كلية التجارة قبل سنتين، وما زال يبحث عن فرصة عمل مناسبة من دون جدوى. أمضى سبعة أشهر بعد التخرج في محاولة ل «إصلاح ما أفسده نظام التعليم» على حد وصفه. يقول: «وجدت نفسي خريجاً جامعياً معتداً بنفسي ولكن من دون مؤهلات تسمح لي بالعمل. فلا أنا أتقنت لغة أجنبية، ولا تقنيات استخدام الكومبيوتر في غير استخدام الإنترنت». أما زميله هيثم (22 سنةً) الذي أنهى لتوه دراسته في كلية الآداب فيقول متضرراً: «لست متفائلاً تجاه المستقبل. ياريت الحكومة تعود إلى صوابها وتعين الخريجين مرة أخرى». وهذا تحديداً ما ذكره التقرير حين أشار إلى استمرار بقايا التقاليد الاشتراكية التي ستحتاج إلى وقت طويل لإخفائها، وأبرزها الاعتماد على الوظيفة الرسمية والإيمان القوي بمسؤولية الحكومة عن خلق فرص العمل، وتوفير الحماية الاجتماعية. ولكن المؤكد أن جانباً كبيراً من معاناة أولئك الشباب يعود لأسباب وراثية، وبمعنى آخر فإنهم جميعاً ينتمون إلى أسر ذات مستويات اقتصادية متواضعة أو حتى متوسطة، لكنها لا تضمن لهم فرص عمل سواء في أعمال يملكها الأهل، أو حتى من خلال علاقات تضمن لهم وساطات تؤدي بهم إلى فرص عمل مجزية. وكما تدور الثروات داخل الأسر، فكذلك الحال بالنسبة إلى الفقر. ويؤكد التقرير نظرية «دائرة الفقر»، فانتقال الفقر بين الأجيال وازدياده هو العامل الرئيس في استمرار تلك الحلقة المفرغة. فالشاب الفقير ينشأ ويستمر فقيراً في غالب الأحيان، ويظل غير مؤهل لاقتناص الفرص أو الحصول على عمل دائم. انخفاض نوعية التعليم، وعدم تأهل الخريجين لشغل وظائف جيدة، وارتفاع نسب البطالة، وانغلاق دائرة الفقر في أي مجتمع لن تؤدي بطبيعة الحال إلى أجواء صحية تشجع على المشاركة الإيجابية في الحياة العامة. وفي مصر يتضح ذلك جلياً على صعيد السياسة. طارق (23 سنةً) يتعجب كثيراً من السؤال الموجه له حول حجم اهتمامه بالسياسة، ويقول: «سياسة إيه؟ هو أنا لاقي آكل أصلاً؟» لكن الحقيقة أن عدم انخراطه هو وأقرانه في أي من الاهتمامات وبالطبع النشاطات السياسية لا يعود فقط إلى ضيق ذات اليد، ولكنه يعود لأسباب أخرى كثيرة جميعها يدور حول فقدان الثقة في جدوى المشاركة. وبحسب التقرير فإن السواد الأعظم من الشباب في مصر يرى أن النشاطات السياسية عديمة الجدوى، وعاجزة عن إحداث فرق في حياتهم، أو التصدي لهمومهم الحقيقية. كما أن شواغل الشباب تتعلق أكثر بالتوجس والخوف من المشاركة السياسية وليس بالتطلعات السياسية. مجموعة من الشباب ممن وردت آراؤهم في التقرير الأممي عبروا عن مخاوف وليس عدم إيمان من جدوى المشاركة السياسية. «لا مانع لدي من الذهاب للانتخابات مثلاً والمشاركة بالإدلاء بصوتي من دون رشى انتخابية. لكن من يضمن لي سلامتي وعودتي بكرامتي؟» يسأل أحدهم. ويقول آخر: «أهلي دائماً يقولون لي اعمل أي شيء إلا السياسة. ابعد عنها تعيش مرتاح». ويرى آخرون وهم كثر اليوم أن «السياسة هي تقوى الله، والاعتصام بالدين، والابتعاد عن نفاق الأحزاب وكذب الحكومة». من جهة أخرى، يسود شعور عام بين الشباب بأن الدولة لا تقدم لهم أية خدمات، كما يميل الشباب إلى الاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من الحراك الاجتماعي هي الرشوة والمحسوبية والتحايل على القانون. وخرج التقرير «شباب مصر: بناة المستقبل» بعدد من التوصيات، أهمها التغلب على فشل نظام التعليم، والعمل على كسر دائرة الفقر، وخلق وظائف جديدة تضمن فرص عمل مجزية وآمنة وتلقى الاحترام في سوق العمل. ويوصي التقرير كذلك بإيلاء قدر أكبر من الاهتمام بنشر الثقافة بين الشباب، لا سيما في ظل الشواهد الكثيرة المؤكدة على تراجع الميل إلى التسامح واحترام الآخرين، سواء لأسباب دينية أو بسبب النوع. وعلى رغم أن التوصيات قد تبدو بسيطة ومكررة لكن المشكلة القصوى تبقى في تنفيذها، لعل المنظمة الاممية تخصص تقريرها المقبل للبحث في معوقات هذا التطبيق وإمكانات إزالتها. بالأرقام 27 في المئة من الشباب المصريين بين الفئة العمرية 18 إلى 29 سنة لم يستكملوا تعليمهم الأساسي. وفي شكل عام لم يحدث أي تحسن كبير في كل مراحل التعليم من حيث الجودة. 20 في المئة من المصريين فقراء، وأولئك يواجهون قدراً أكبر من الصعوبات في الالتحاق بالمدارس. 80 في المئة من الفتيات لم يلتحقن بالمدارس. 90 في المئة من العاطلين من العمل تقل أعمارهم عن 30 سنةً. الفقر الشباب الفقراء لا يستطيعون تحمل البقاء طويلاً من دون عمل، لذلك يتخلون عن فكرة الحصول على وظيفة رسمية أو عمل جيد أسرع من الفئات الأخرى لذا يلتحقون بأي عمل يجدونه وقد يبقون فيه طوال حياتهم. لذا فإن مجرد الحصول على عمل ليس ضماناً للخروج من دائرة الفقر، بل الحصول على وظيفة مجزية والحفاظ عليها هو الوسيلة الفعالة لكسر دائرة الفقر. بناء الأسرة 70 في المئة من الإناث بين 15 و21 سنة تزوجن في سن ال18. كما أن 93 في المئة من الذكور المتزوجين هم من الفئة العمرية نفسها، وهؤلاء غالباً من مناطق الريف حيث الزواج المبكر ظاهرة منتشرة. وإلى جانب الفقر أكثر من ثلث المتزوجين حديثاً يستمرون في الإقامة مع آبائهم عند الزواج ما يوسع العائلة من دون أن يترافق ذلك مع دخل إضافي. الإسكان لم يترافق إنشاء وحدات سكنية فاخرة مع إنشاء أخرى بأسعار تناسب أصحاب الدخل المحدود.