في إطار حملتها من أجل تشجيع الاستثمارات الأجنبية اعتمدت حكومة إقليم كردستان العراق سياسة يمكن تلخيصها بالشعار الآتي: الإقليم هو «العراق الآخر» كما انه بوابة الدخول إليه. المدلول التجاري واضح في الجزء الأول من الشعار، فيما الجزء الثاني ذو مدلول سياسي مفاده أن الدعوة الى الاستثمار في الإقليم ليست محاولة «انفصالية» لإضعاف الارتباط بالعراق، بل بالعكس هدفها الانطلاق من الإقليم الى بقية العراق. لا يقال هذا لمجرد الكلام المنمق، بل هو حقيقة مثبتة. فشركة «آسيا سيل» للهاتف الخليوي تأسست في السليمانية بدعم شركة صينية وبدأت بعشرة آلاف مشترك في هذه المحافظة. حالياً الشركة يعمل فيها عشرة آلاف موظف وتقدم خدماتها لثمانية ملايين مشترك في جميع محافظات العراق. بعبارة أخرى «العراق الآخر» هو الوجه الحسن للعراق. لكن ما هي الأسس التي تبرر اعتبار إقليم كردستان بمثابة «العراق الآخر» وتقنع المستثمر الأجنبي، الإقليمي والدولي، على العمل فيه؟ الجواب البسيط هو أن الإقليم يوفر شرطين رئيسين للاستثمار الأجنبي: الاستقرار (الأمني والسياسي) والقانون اللازم الذي يطمئن المستثمر على ماله. ما سلف كان موضع بحث شارك فيه ممثلو نحو 600 شركة أجنبية، إقليمية ودولية، مع أعضاء وفد ضم رئيس وزراء الإقليم ووزراء فيه، إضافة الى رجال أعمال مستقلين، وذلك خلال مؤتمر استضافته حكومة الإقليم في لندن على مدى يومين منتصف الشهر الماضي. رئيس هيئة الاستثمار التابع لحكومة الإقليم هيرش محرّم قال إن قانون الاستثمار الذي أقره برلمان الإقليم إنجاز تفخر به الحكومة وهو يوفر الضمان المطلوب للمستثمرين الأجانب ويحمي أرباحهم بالكامل، الأمر الذي يشكل حافزاً رئيساً للمستثمر الأجنبي. فالقانون رقم 4 لعام 2006 الذي أقره برلمان الإقليم ينص (الباب الثاني، الفصل الأول، المادة الخامسة) على «أولاً: يعفى المشروع (الاستثماري) من جميع الضرائب والرسوم الجمركية لمدة (10) سنوات اعتباراً من تاريخ بدء المشروع بتقديم الخدمات أو تاريخ الإنتاج الفعلي». أما الاستقرار الأمني فالمثال التالي على وجوده ساقه وزير داخلية الإقليم كريم سنجاري: خلال السنوات الخمس الماضية وقعت ثلاث عمليات إرهابية فقط في الإقليم، في دهوك عام 2004 وفي أربيل عام 2007 وفي السليمانية عام 2008. ومنذ دخول القوات الأجنبية الى الإقليم في نيسان (أبريل) 2003 وحتى اليوم لم يتعرض جندي واحد من هذه القوات الى الاعتداء. بل يمكنهم أن يتجولوا في أسواق المدن بملابسهم العسكرية ومن دون سلاح أحياناً. أكثر من هذا فإن الجنود الأجانب المرابطين في مناطق أخرى من العراق غالباً من يتوجهون الى كردستان للتمتع بإجازاتهم القصيرة. هذه الحقيقة شدد عليها عبدالله الصالح المدير العام لوزارة التجارة في دولة الإمارات العربية المتحدة الذي كان الشخصية العربية الرسمية الوحيدة المشاركة في المؤتمر. فهو طرح السؤال: «لماذا كردستان جذابة بالنسبة إلينا؟» وأجاب عن السؤال بنفسه: «الأمان والاقتصاد. الدخل القومي (في الإقليم) أعلى 25 ضعفاً من بقية العراق. لذا نسعى الى استثمار ثلاثة بلايين دولار بحلول نهاية العام الحالي وأكثر لاحقاً». الإمارات تكاد تنفرد بين الدول العربية الوحيدة غير المتحفظة عن الاستثمار في الإقليم، بل تعمل على تعزيز علاقاتها التجارية معه وتوسيعها، ليس أدل على ذلك من انها أرسلت أخيراً وفداً كبيراً الى كردستان برئاسة وزيرة التجارة ضم رجال أعمال بارزين لدرس إمكانات الاستثمار هناك. يقال هذا مع الإشارة الى أن الأتراك يبقون ملوك الاستثمار في كردستان (600 شركة تركية تستثمر فيها)، الأمر الذي حرص ممثلو الإقليم على إبرازه في مداخلاتهم واعتبروا أن التجارة مع الخارج لها مردود سياسي إيجابي كذلك. فلاح بكر الوزير المسؤول عن علاقات الإقليم الخارجية مثلاً لاحظ أن التجارة مع الخارج ليست من أجل البزنس فحسب، بل لتحقيق جانب سياسي يتمثل في خلق ضمانات لمستقبل الإقليم. تركيا تعتبر مثالاً جلياً على ذلك. فاستمرار البزنس التركي في الإقليم وحرص سلطاته على تشجيعه وتوفير كل الضمانات والمخفزات لتوسيعه لعب دوراً مهماً في إزالة الحساسيات والشكوك المعروفة من جانب أنقرة وفي تحسين العلاقات بين الجانبين حتى توّجت هذه العلاقات أخيراً بتوجيه دعوة رسمية الى رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني واستقباله في أنقرة بهذه الصفة. حقيقة أخرى مهمة تتمثل في أن الهاجس الرئيسي لمعظم البعثات الديبلوماسية في الإقليم (17 بعثة إضافة الى مكاتب تابعة لسفاراتها في بغداد) باتت تركز على تشجيع الشركات في بلدانها للاستثمار في المنطقة نظراً الى أن هذه البعثات تمتلك حرية التحرك والاستقصاء في أنحاء الإقليم متخلية عن الهاجس الأمني الذي لا يزال يسيطر على نشاطات البعثات الديبلوماسية في بغداد. علماً أن هذه البعثات تبنت عملياً شعار الإقليم بأنه بوابة الدخول الى العراق، خصوصاً أن دولاً غربية كثيرة بما فيها الولاياتالمتحدة وبريطانيا صارت تستثني الإقليم من التعليمات الموجهة الى مواطنيها في شأن مخاطر السفر الى العراق. حتى أن نيكولاس آرمور مدير المجموعة الدولية في المعهد البريطاني للتجارة أشار الى مفارقة أن سفر الأجانب الى كردستان كان مستحيلاً في ظل نظام صدام حسين فيما العكس هو الصحيح في الوقت الحاضر. يبقى أن قطاع النفط في كردستان ومشاكله (الخلافات مع حكومة بغداد و37 عقداً وقعتها حكومة الإقليم مع نحو 40 شركة تنتمي الى 17 دولة ومواقع مكتشفة بالفعل وتعهدات باستثمار بلايين الدولارات في هذا القطاع) استأثnت بالاهتمام الأكبر للمشاركين في المؤتمر عبر المداخلة التي قدمها وزير الموارد الطبيعية في الإقليم آشتي هورامي. وهو موضوع شائك يصعب استيعابه في هذا المقال وقد تمكن العودة إليه في مقال لاحق. وعودة الى عنوان المقال. الطريق أمام إقليم كردستان ما زال طويلاً لكن ما سلف يؤكد أن «العراق الآخر» ليس وهماً.