كمعدل عام يمكن القول ان خمسين سنة، اي نصف قرن، مضت منذ وجدت التلفزة في البلدان العربية الأولى التي بادرت عند بداية ستينات القرن العشرين الى زرع الجهاز الصغير في البيوت للمرة الأولى، بعد عقود من وجوده في عدد من البلدان الغربية. وفي شكل عام يمكن القول ان مرور خمسين سنة، أو أكثر قليلاً أو أقل بعض الشيء على بدء ترسخ الشاشات الصغيرة في المجتمعات العربية، كان يتوجب ان يكون مناسبة يُحتفل بها، أو يُلتفت إليها على الأقل. غير ان الأهم من هذا يكمن في مكان آخر: ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين ساد كثير من النقاش، وظهرت دراسات وأفكار حول التأثيرات التي كانت لفنون مثل المسرح والسينما والغناء، ولآداب مثل الشعر والرواية، ولانتشار الجامعات والتعليم العالي، على الذهنيات العامة. ولقد كان من المتوقع والمنطقي، مع اليوبيل الذهبي لولادة التلفزة، أن يكون مناسبة صالحة لوجود دراسات وبحوث من هذا النوع تتعلق، مثلاً، بتأثير حضور التلفزة في الحياة الاجتماعية العربية، و فعلها في الذهنيات. وذلك ببساطة لأن الأكيد الأكيد، هو ان التلفزيون الأرضي، الرسمي، ثم الفضائي الرسمي والعام، مارس من التأثير في هذه الذهنيات العربية أكثر كثيراً مما مارسته كل الفنون والآداب ووسائط إيصالها مجتمعة. والأكيد الأكيد هو ان الإنسان العربي، العام، بعد بداية عصر التلفزيون، لم يعد هو هو ذلك الإنسان الذي كانه قبل هذا العصر. وهنا في هذا السياق، من البديهي أننا لا نتحدث، فقط، عن إنسان ومجتمع عربيين قولبتهما السياسة وأخبارها، أو الدرامات التلفزيونية وأفكارها وما الى ذلك، بل نتحدث حتى عن إنسان ومجتمع وصل إليهما عصر الاستهلاك بكل قوته، من طريق الإعلانات، أو عصر وهم الحرية بكل تضليله وجبروته من خلال «ديموقراطية التلقي» وقيل لهما إنهما منفتحان على زمن العالم من خلال تراكم ما يشاهدان... وإن كل الفنون والآداب والتواريخ صارت ملك يمينهما، من خلال عروض تقدمها مئات المحطات 24 ساعة في اليوم. ترى... ألا يستحق هذا كله، لمناسبة الخمسينية الوسطية هذه، اهتمامات جادة من الباحثين... السوسيولوجيين؟ أو لا يستحق مؤتمرات ودراسات إحصائية وبحوثاً جامعية وهيئات بحث وإحصاء دائمة؟ أو لعلنا - كالعادة - ننتظر مؤسسات تأتي من الخارج فتبحث وتستنتج وتقرر وترسم وتخطط ثم نجلس نحن مصفقين منشدين مثل اولئك الذين - في الحكاية الطريفة - كانوا يرددون: قلنا حنبني وادي إحنا بنينا السد العالي؟