غالباً ما تفرض وقائع هذا الزمن على كثيرين أن ينظروا إلى العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي نظرة أحادية تتمثل في العداوة، ويظن أكثرهم أن منبع العداء هو التراث الديني المتنافس بين الطرفين والذي قد يحرضهما على القتال ورغبة كل منهما في السيطرة على الآخر، ونواجه جميعاً السؤال الأهم: هل كان هذا التنافس هو المحرك للسياسات بين دول العالمين، أم أنها هي التي شكَّلت -ولا تزال- ملامح التراثات الدينية على مر الأزمنة؟ قد تختلف الآراء ولكن من المهم الاعتراف بأننا إذا توغلنا في التاريخ وتحرينا الموضوعية التي اجتهد كثيرون في العدول عنها، فسنجد بين صفحاته شهادات على أن العلاقة بين العالمين لم تكن على وتيرة واحدة بل هنالك عديد من التناقضات والتعقيدات، تخبرنا بأن أحاديي النظرة هؤلاء والذين يشاركون في صنع ذلك العداء إنما طوتهم السياسات تحت جناحها واستخدمهم أحد الطرفين للوصول إلى أهدافه تماماً، كما يُفعل مع تراثاتنا الدينية. هل نحن أمام حضارتين متنافستين، قائمتين على أيديولوجيتين عالميتين، متباريتين في طموحاتهما تتصادمان ملوحتين بلواءي الحملة الصليبية والجهاد كما يرى هنتنغتون؟ أم أننا أمام فرعين لحضارة واحدة؛ «إسلامية - مسيحية» تمتد عبر تراث ديني وثقافي مشترك. هذا ما يحاول أن يجيب عنه كتاب «أوروبا والعالم الإسلامي تاريخ بلا أساطير»؛ والذي اشترك ثلاثة مؤرخين في تأليفه هم هنري لورنس وجون تولان وجيل فاينشتاين، وترجمه أخيراً بشير السباعي لحساب المركز القومي المصري للترجمة. يعالج الكتاب ثلاث حقبات تاريخية مختلفة: حقبة العصر الوسيط بقلم جون تولان، والحقبة الحديثة لجيل فاينشتاين، والحقبة المعاصرة لهنري لورنس. وقام كل منهم بمهمته بأسلوب مختلف عن الآخرين. نكتشف في تلك الشرائح التاريخية ما يقودنا إلى رؤية أشمل للعلاقة بين العالمين تساعدنا على فهمها وربما التخلص من النظرة الأحادية. يبدأ الجزء الأول من الكتاب بتصور العرب والأوروبيين للعالم، فمن منظور أوروبا اللاتينية في القرن الثاني عشر؛ كان الجغرافيون الإغريق قد جعلوا من ديفلي سُرَّة العالم، أما الجغرافيون العرب فقد حددوا مركز العالم في بغداد أحياناً وفي المدينتين المقدستين في الجزيرة العربية أحياناً أخرى. لكن الجغرافيين الأوروبيين كانوا مدينين بالولاء للتراثات القديمة وكانوا مدركين حقيقة أنهم يسكنون الأطراف الشمالية الغربية للأرض وأن مركزها هو أورشليم. كان يشار إلى العرب المسلمين بالسراسنة، ولم يكن من المتداول استخدام كلمة مسلم، وفي الحديث عن أساطير أصول الشعوب وتنوع الأعراق فقد «كان أسلافنا يتكلمون كلهم لغة واحدة هي العبرانية إلى أن دمر الربُ برج بابل وبثَّ البلبلة في الألسن». هذا بالنسبة إلى إيزيدور السيبيلي. وهو يحدد شخصيات توراتية يصفها بآباء لشعوب محددة، ومنهم إسماعيل. ومن هنا جاء الإسماعيليون المعروفون الآن ب «السراسنة» جراء التحوير الذي حدث لاسمهم بوصفهم أحفاد سارة، و «الهاجرنة» أحفاد هاجَر. ويزعم جيروم؛ وهو من الكتاب اليهود، أن العرب اغتصبوا اسم «السراسنة» ليزعموا أنهم أبناء «امرأة حرة وشرعية». لطالما تمَّ استخدام منطق الحرب المقدسة لتبرير الجهاد أو الحملات الصليبية أو ما شابه من الحروب حتى بين المنتمين إلى دينٍ أو عرقٍ واحد، وقد حدث ذلك ضمن إطار النزاع بين السلاجقة السُنَّة والفاطميين الشيعة، بين البيزنطيين والنورمان، بين الباباوية وآل هوهونشتاوفن. لا يجب أن نتخيل تلك المواجهات نكبات صِدام حضارات بين الإسلام والغرب، ففي ساحة القتال في شبه الجزيرة الأيبيرية أو في فلسطين أو على الساحل المغربي أو في صقلية، كنا بإزاء مسيحيين متحالفين مع مسلمين، ومسلمين متحالفين مع مسيحيين، يواجهون خصوماً مختلطين أيضاً، ولكن يبقى الدين عنصراً رئيسياً في تبرير الحرب في العصر الوسيط. ويتحدث تولان أيضاً عن زمن الفتوحات الإسلامية حتى الخلافة العباسية، حيث حافظ العرب على تماسكهم بالإضافة إلى ضعف الإمبراطوريتين الكبيرتين؛ فارس وبيزنطة، وكان رعاياهما غير متحمسين للدفاع عن سادتهم بخاصة مسيحيي سورية ومصر القائلين بواحدية طبيعة المسيح الذين تعرضوا لاضطهاد من جانب القسطنطينية بوصفهم هراطقة. كما لا ينفي اضطهاد الخلفاء الإسلاميين الأقليات الدينية المسيحية وإجبارهم على الخضوع لسلطة الخلافة الإسلامية بخاصة بعد تطور مفهوم الجهاد وكيف كان الأمراء والخلفاء الأمويون في قرطبة يمارسون الجهاد السنوي ضد كفار الشمال، ويبدو أن هدفهم هو السلب والهيبة بأكثر مما هو فتح أراضٍ. ويذكر تولان كُتَّاب الحوليات الأوروبيين في القرون السابع والثامن والتاسع من الفتوحات الأوروبية الذين اتخذوا موقفاً عدائياً تجاه النبي محمد والإسلام. ثم يأتي الحديث عن الحملات الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر والتي سعت لتكوين دول لاتينية في الشرق: مملكة أورشليم، كونتية طرابلس، إمارة أنطاكيا، كونتية إيديس، عندما أطلق البابا أوربان الثاني نداءً في كليرمون عام 1095 صوَّر الحملة بأنها حجٌّ مسلح، وهو يقدم للمشاركين فيها صكوك الغفران التي تُقدَّم إلى حاجّ، ويُخاط صليب على ثيابه؛ إشارة للتعهد. وبعض الإخباريين يسمون الصليبيين بجنود المسيح أو جيش الرب. وقد يكون الجيش المسيحي وريثاً لجيش إسرائيل في العهد القديم. ويرى الإخباري روبير الراهب بعد انتصار دوريليه الذي فتح الأناضول، أن الجنود قاموا بإنشاد نشيد للرب يستعيد النشيد الذي وجهه موسى إلى الرب ليشكره على إبادته جيش فرعون. ويستعرض لنا الكاتب أحوال الأقليات المسلمة في الدول المسيحية أو تلك المسيحية في الدول المسلمة والتي تشترك في المعاناة من الظلم والاضطهاد. ويختتم الجزء الأول بالتبادلات المعرفية والتلاقيات الدينية بين العالمين. أما الجزء الثاني لجيل فاينشتاين، فعن الدولة العثمانية، تحت عنوان «أوروبا والتركي الأكبر»، ويتناول القطيعة الجيوسياسية وما أثاره فتح القسطنطينية من تقسيم ترابي جديد بين العالمين الإسلامي والمسيحي، لتكون الإمبراطورية العثمانية ثالث إمبراطوريات العصر الحديث بعد إمبراطورية مغول الهند الكبار، ونشوء الإمبراطورية الصفوية التي وحَّدت إيران وصبغتها بطابع الشيعة الاثنى عشرية. أصول السلالة العثمانية الحاكمة غامضة وسوف تجتهد في ما بعد في إضفاء بهاء زائدٍ عليها بابتداع أصولٍ مهيبة. لكن إسلامها قريب العهد وممتزج بشدة بمعتقدات وممارسات وسط آسيوية سابقة، ما يجعله إسلاماً أقل انسجاماً مع العقيدة الإسلامية القوية. وبدأت فتوحاتها عندما استعان الإمبراطور البيزنطي جان كانتاكوزين بأورخان ابن عثمان المؤسس، واستقدمه إلى أوروبا وزوَّجه ابنته. وتبدأ رحلة الفتوحات في أوروبا التي يعهد بها أورخان إلى ابنه سليمان باشا، ويأتي في ما بعد محمد الثاني ليستولي على القسطنطينية ومن بعده سليم الأول وفتوحاته المثيرة في الشرق الأوسط بعد أن انتصر على ملك فارس الشيعي شاه إسماعيل. وفي زمن الدولة العثمانية، تراجع مصطلح «السرساني»، وحلَّ محله مصطلح التركي للإشارة إلى المسلم. وتمت إضافة قداسة على الحملة الصليبية على العثمانيين عام 1453 حتى أننا نجد أن البابا نيكولا الخامس والذي قرَّر تلك الحملة، يصور في المرسوم الباباوي العاهل العثماني على أنه المسيح الدجَّال. «لو كان صوت الأيديولوجيا هو الصوت الوحيد المسموع على امتداد الحقبة الحديثة لظل المعسكران وجهاً لوجه؛ كل منهما منكفئ على أيديولوجيته وما كانت لتقوم بينهما علاقات، فهنالك أصوات الواقعية السياسية والبراغماتية التجارية». الجزء الثالث من الكتاب يبدأ بالقرن الثامن عشر، وعنوانه «الإمبريالية الأوروبية وتحولات العالم الإسلامي»، لهنري لورنس، ويتحدث فيه بالتأكيد عن الثورة الفرنسية وما تمثله من اتجاه التنوير وتحويل المعرفة إلى فعل سياسي، وقد اقترح ثوارها طريقاً آخر لشرعنة التوسع الاستعماري، وهو تحرير شعوب الشرق، وستكون الحملة على مصر حقلَ اختباره. والابتكار الخاص الذي قام به بونابرت هو الذهاب إلى أن الإسلام يحمل في ذاته محتوى ثورياً يمكن استخدامه ضد الفاتحين أو استخدامه على العكس لصالحهم. وسوف يصور الفرنسيون أنفسهم على أنهم أعداء للمسيحيين وبخاصة الكاثوليك، وسوف يكثرون من أشكال المراعاة حيال المرجعيات الدينية، وسيتم ذلك باسم التمدين، وهو إنماء المجال المفتوح بحسب قواعد السعادة الفردية والجماعية. وفي أوروبا، يصبح تجريد الإسلام من القيمة سمةً سائدة. نذكر رينان وعداءه للإسلام. ونذكر أيضاً الأزمنة الشرقية بين عامي 1875 و1883 في البوسنة والهرسك بانتفاضة الفلاحين ضد السادة المسلمين. وفي نيسان (أبريل) 1877 تعلن روسيا الحرب على العثمانيين. وعن الحرب العظمى؛ «الحرب العالمية الأولى»، فقد كانت التنافسات الأوروبية في العالم الإسلامي أحد العوامل المفاقمة في السير نحو الحرب، وهذه الحرب الأهلية الأوروبية بحسب حكم الجيل الأخير للقرن العشرين عليها، كان رهانها الثانوي أيضاً هو السيطرة على العالم الإسلامي. وقد اعتبرت فرنسا وبريطانيا العظمى نفسيهما دولتين مسلمتين بسبب وجود ملايين من المسلمين في إمبراطوريتيهما الاستعماريتين. والأمر كذلك مع روسيا. وإذا كان بوسع الجيش الفرنسي الإفريقي والجيش البريطاني الهندي تجنيد وحدات بشرية مهمة من سكان أفريقيا والهند، فقد ظلَّ هؤلاء المسلمون عامل هشاشة حيال ألمانيا التي تتخذ الآن موقف الحامية السافرة للإسلام والتي تنجح في جر الدولة العثمانية إلى معسكرها وإلى الحرب في عام 1914. ورأى الفرنسيون والبريطانيون على الفور أن يتصدوا للجهاد العثماني باللجوء إلى مرجعية أخرى غير السلطان. والحال أن حسين، أمير مكة ورئيس العائلة الهاشمية هو المرشح الأفضل. وتدور المفاوضات بين الممثل البريطاني مارك سايكس والممثل الفرنسي جورج بيكو بهدف إعطاء مضمون خرائطي للمشروع الفرنسي المسمى بسورية وللمشروع الإنكليزي المسمى ببلاد العرب. وقد أعلنت فارس التي تعرف أنها هشَّة، موقف الحياد. وبعد ذلك تبدأ الثورة العربية في حزيران (يونيو) 1916 وتبدأ بعدها حروب التحرير. ويسير بنا لورنس حتى ينتهي بالأحداث العالمية القريبة، كأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، حتى ينتهي الكتاب بقوله: «... وتتمثل الحقيقة الواقعية التاريخية في أن هناك اليوم في كل شخصية أوروبية جزءاً مسلماً، كما أن في كل مسلم جزءاً أوروبياً. والعنف الذي يتصور المرء أنه يمارسه ضد الآخر المرفوض هو بادئ ذي بدء عنف يمارسه ضد نفسه هو. والحال أننا عندما نستفسر عن مكوناتنا الوجدانية المشتركة سنتوصل إلى حوار ثقافات حقيقي».