استدعى حادث قرية «الكرم» في محافظة المنياجنوبالقاهرة، تعليقات وتحركات من القوى الرسمية والدينية والسياسية المختلفة بسبب ما شهده من تعدٍ غير مسبوق ربما يدفع هذه المرة في اتجاه ضرورة تطبيق القانون على مرتكبيه، والنأي عن جلسات الصلح العرفي التي لا تكترث إلا بتهدئة الخلافات الطائفية، لكن تبقي النار تحت الرماد. وبحسب شهود من قرية «الكرم» النائية في مركز أبو قرقاص، أخذت الخلافات بين أهالي القرية من المسلمين والأقباط منحى طائفياً إثر شائعة عن علاقة مُحرمة جمعت امرأة متزوجة مسلمة مع رجل مسيحي من أهالي القرية. وتلقت أسر مسيحية تهديدات من مجهولين بإحراق منازلها بعد صلاة الجمعة الماضية، ما دفع بعض الأسر، ومنها أسرة الرجل المسيحي محل الإشاعة، إلى التقدم ببلاغات للشرطة لحمايتها. وفي المساء، خرج مئات المسلمين، بعضهم مُسلح بأسلحة آلية وأخرى نارية وأسلحة بيضاء، وهاجموا منازل الأقباط وأحرقوا حوالى 5 منازل بعد نهبها، ثم توجهت الجموع إلى منزل الرجل المسيحي للفتك به فلم تجده، فاقتادت والدته المسنة إلى الشارع بعد تجريدها من ملابسها، وطافت بها بعض شوارع القرية إلى أن تمكن بعض الأهالي من تخليصها وتهريبها. وفجّر الاعتداء عليها غضباً غير مسبوق من الأطياف المختلفة، ومطالبات بضرورة تطبيق القانون على المعتدين عليها، وهو ما تعهدت به الجهات الرسمية المختلفة. وتندلع نزاعات طائفية من وقت إلى آخر إما بسبب بناء الكنائس أو بسبب قضايا الشرف، لكن تلك الحوادث تظل في حدود تبادل الاعتداءات أو تهجير المسيحيين من منازلهم لحين استقرار الأوضاع، وعلى أقصى تقدير يتم التعدي على ممتلكات الأقباط، وغالباً ما تُحل تلك النزاعات في جلسات عُرفية تحضرها قيادات دينية إسلامية ومسيحية تحت رعاية أمنية على الأرجح. وقال الخبير في مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتور نبيل عبدالفتاح ل «الحياة» إن أحد الأسباب التي أدت إلى استمرار هذا النمط من التوترات هو لجوء الأجهزة المختصة وأعضاء البرلمان وكبار العائلات إلى آلية المجالس العرفية كشكل من أشكال حل النزاعات خارج إطار قانون الدولة، لافتاً إلى أن البعض يلجأ إلى هذا النمط من أجل إبعاد سيادة القانون عن الواقع وإبعاد المسؤولية الجنائية أو الإدارية عن الجهات المختصة بسبب هذه الأعمال التي تثور لأسباب بسيطة. وأضاف: «أدى ذلك إلى استمرارية هذه النزاعات والتوترات ذات البعد الطائفي، فالجميع أيقن أن الأجهزة لن تلجأ إلى فرض القانون على الجميع، وإنما سيتم اللجوء إلى سياسة الاحتواء لنتائج الواقعة الطائفية من خلال اللجوء إلى نظام الدية ودفع أموال وتعويضات عن الأضرار التي تقع على منازل الأقباط أو الطرد للمتسبب في النزاع وأسرته من القرية التي وقع فيها الحادث. هذه الأمور أدت إلى تفاقم التواترات الطائفية». واعتبر أن «وقائع العنف الاجتماعي الذي يرتدي أقنعة طائفية غالباً ما يلجأ المسلمون خصوصاً إلى تحويلها إلى نزاع طائفي من أجل حلها بآلية المجالس العرفية حتى لا يطبق عليهم القانون». لكنه رأى أن أجهزة الدولة «لو نفذت توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي بتطبيق القانون بحزم على المسؤولين في هذه الحالة، فأعتقد أنها يُمكن أن تكون بداية جديدة للتعامل مع تلك الأمور المتوقع أن تزيد في الفترة المقبلة مدفوعة بتحريض قوي لإحداث شروخ في بنية المجتمع المصري». وأكدت رئاسة الجمهورية أنها تتابع باهتمام بالغ الإجراءات المُتخذة حيال «الأحداث المؤسفة» التي شهدتها قرية «الكرم». وقالت إن الرئيس السيسي أصدر توجيهاته للأجهزة المعنية كافة بالدولة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لحفظ النظام العام وحماية الأرواح والممتلكات في إطار سيادة القانون ومحاسبة المتسببين في هذه الأحداث وإحالتهم على السلطات القضائية المختصة، كما وجه محافظ المنيا للتنسيق مع القوات المسلحة لإعادة إصلاح وتأهيل المنشآت المتضررة نتيجة هذه الأحداث خلال شهر، مع تحمل الدولة النفقات اللازمة. وأكد رئيس الجمهورية أن مثل هذه الوقائع المثيرة للأسف لا تعبر بأي حال من الأحوال عن طبائع الشعب المصري وتقاليده العريقة، وقال: «ستظل المرأة المصرية العظيمة نموذجاً للتضحية والعمل من أجل رفعة مصرنا الغالية، وستبقى حقوقها وصون كرامتها التزاماً علينا إنسانياً ووطنياً قبل أن يكون قانونياً ودستورياً». واتصل بابا الأقباط بالسيدة سعاد المعتدى عليها من النمسا حيث يخضع للعلاج. ونشرت الكنيسة تسجيلاً للمكالمة الهاتفية التي أكد فيها البابا ضرورة أن تستمر العلاقة الطيبة بين المسلمين والمسيحيين، موضحاً أن المسؤولين في الدولة وعدوا بتطبيق القانون في هذا الموقف، وعلى رأسهم الرئيس السيسي. وأوضح أن مسؤولي الدولة يتعاملون مع القضية بجدية بالغة لتطبيق القانون وتنفيذه أولاً وأخيراً ومحاسبة أي شخص مخطئ، هذا في الشق الجنائي، لكن في الشق الاجتماعي، لا بد أن تسود العلاقات الطيبة بين المسلمين والمسيحيين، وإن حدث موقف، وإن كان مشيناً ومؤلماً للغاية، فالله سيمرره بهدوء وسلام لحفظ مصر». وأضاف: «ربما يكون هذا الدرس فرصة لكل المسؤولين في الدولة للالتفات إلى هذه المحافظة التي لا تمر فترة إلا وتحدث فيها أحداث مؤلمة تشوه صورة مصر أمام العالم». وزار مطارنة وأساقفة الإيبارشيات السبع لمحافظة المنيا مقر مطرانية المنيا وأبوقرقاص، معلنين تضامنهم مع السيدة التي تعرضت إلى الإهانة، ومعبرين عن شدة ألمهم واستيائهم مما حدث. وأكدوا ضرورة الحفاظ على كرامة المواطن المصري. وقال أسقف عام المنيا وأبو قرقاص الأنبا مكاريوس إن الكنيسة ترفض رفضاً باتاً تحويل قضية «قرية الكرم» إلى جلسات «صلح وتطييب خواطر» قبل قيام أجهزة الدولة بدورها في محاسبة المتسببين الحقيقيين، وبعد ذلك يأتي البعد المجتمعي. وأضاف في بيان: «طريقة الملاطفة وحلو الكلام أفسدت جميع القضايا وأوجدت الفرصة للمسؤولين للهروب من المواجهة والقيام بمسؤولياتهم، وجعلت من كل كارثة مقدمة لكارثة أكبر في زمن قصير». وأكدت بطريركية الأقباط الأرثوذكس في الاسكندرية في بيان أمس أنها ترفض تماماً «تطبيق الصلح العرفي» في تلك الواقعة، وتُصر على تطبيق القانون. وقالت: «راعنا الموقف المشين والمخزي الذي حدث في قرية الكرم، بقيام غوغاء بتعرية سيدة مسنة مصرية مسيحية، وتجريدها من ملابسها في الطريق العام، بلا نخوة ولا رجولة ولا ضمير ولا أي وازع إنساني»، مضيفة: «إذا كان هذا الموقف راعنا لأنه حدث من غوغاء، فالحقيقة أن ما أزعجنا أكثر هو عدم الكشف عن هوية مرتكبي هذا الحادث الذي يندى له جبين أي إنسان». وأكدت البطريركية رفضها الكامل أي محاولة عرفية أو ودية للتغطية على ما حدث، مضيفة: «نؤكد أن مصر لن تنهض إلا بتطبيق القانون على كل مخطئ من دون تفرقة ومن دون حسابات مرتعشة، تخاف من المجرم تحت أي حجة. نخشى تكرار هذه الأمور طالما لا يوجد قانون يطبق». كما دان المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس تلك «الأحداث البربرية الإجرامية»، مؤكداً ضرورة اعتقال كل من شارك في هذا «العمل الإجرامي»، وإجراء تحقيق شفاف يثبت حقائق هذا الحادث، وإقصاء كل مسؤول يثبت تقصيره في حماية أبناء الشعب المصري من أي معتدٍ بعدم التصدي للمحرضين على الاعتداء على إخوانهم في الوطن ومروجي الإشاعات الهدامة. وشدد على أن «حل المشاكل بالإجراءات القانونية اللازمة العادلة هو وحده الذي يكفل الأمن والأمان لكل مواطن، كما يؤكد أن التهاون في معالجة أحداث سابقة وعدم معاقبة المعتدين واللجوء الدائم إلى المصالحات العرفية فشل فشلاً ذريعاً أدى إلى عواقب وخيمة وإلى تهجير قسري يخالف أحكام الدستور، وأهدر هيبة القانون وحقوق المواطنة، وهو السبب الرئيس في ما آلت إليه الأمور، لذا فإن المجلس لا يطالب إلا بتطبيق القانون تطبيقاً عادلاً حازماً». وكان الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية ودار الإفتاء ومجلس الوزراء دانوا الحادث «المشين». وأوقفت الشرطة 10 أشخاص متهمين في تلك الواقعة، فيما يظل 12 شخصاً فارين. وفوّض بابا الأقباط تواضروس الثاني أسقف عام المنيا الأنبا مكاريوس الحديث باسم الكنيسة لمتابعة تطورات الأزمة. وزار وفد يضم قيادات في الأزهر والمركز القومي للمرأة ونواب البرلمان ومحافظ المنيا اللواء طارق نصر القرية أمس، والتقوا كبار العائلات فيها والأسر المسيحية المعتدى عليها. وألقى محافظ المنيا كلمة من مسجد القرية التي اكتظت بقوات الأمن أكد فيها أن مصر يحاك ضدها مكائد كثيرة يجب أن يلتفت إليها المصريون، مشدداً على أن أحداً لن يستطيع أن يفرق بين مسلمي مصر ومسيحييها، وعلى أن الدولة عازمة على تطبيق القانون وضبط الجناة في تلك الواقعة. وقال الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمود عفيفي لأهالي القرية إن تلك الحادثة غريبة عن المجتمع المصري، متسائلاً: «لمصلحة من يتم تأجيج الأحداث وإشعال النار؟».