في كتابه الذي يحمل عنوان «العمق الاستراتيجي» «Strategic Depth» الذي نشره عام 2001 وضع زعيم الديبلوماسية التركية الجديد البروفسور أحمد داوود أوغلو نظرية إستراتيجية جديدة لتحقيق رؤية سياسية مستقلة لتركيا وفقاً لمصالحها لا وفقاً لمصالح حلفائها في الغرب وحل مشاكل تركيا المعقدة مع الجيران والأصدقاء والحلفاء وتحقيق أفضل المصالح معهم، وإيصال الدور التركي إلى أي مكان يتواجد فيه الأتراك حالياً أو مروا فيه سابقاً أو حكموه، ومن ثم جعل تركيا قوة إقليمية ودولية ورفعها إلى مصاف الدول العظمى. وضمن هذه الأفكار رسم أوغلو تصوراً سياسياً واستراتيجياً لمنطقة القوقاز والبلقان والشرق الأوسط. والحقيقة أن أوغلو لم يفصح عن كل آرائه وأهدافه. فكتابه لا يعبر عن حقيقة أهدافه السياسية، وهذا ليس عيباً بحد ذاته، فالسياسي المخضرم لا يكشف أوراقه دفعة واحدة ولا يتحدث عن كل شيء. وأوغلو براغماتي بكل معنى الكلمة، لا يعرف اليأس ولا حدود لطموحاته الشخصية والسياسية. والسياسة البراغماتية التي مارسها طوال عهده مستشاراً للشؤون السياسية لدى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، خصوصاً ما يتعلق بالتدخل التركي في قضايا الشرق الأوسط والقوقاز منذ عام 2003 حققت نجاحاً لا بأس به على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكسب الرجل معظم التحديات والرهانات ومرر سياسته في الشرق الأوسط، وتوج هذا النجاح أخيراً بحصوله على حقيبة الخارجية التركية وهي أهم حقيبة في منطقة تشهد تطورات دراماتيكية ونزاعات إقليمية معقدة، وبذلك أثبت أوغلو وجوده كمفكر وسياسي استراتيجي على عكس ما وصفه به خصومه (أكاديمي حالم يجر تركيا إلى مستنقع الشرق الأوسط ومشاكل العرب وإسرائيل وإيران والقوقاز والبلقان ويغفل واقع العمل السياسي على الأرض). لكن، ما هي نظرية أوغلو وفلسفته واستراتيجيته؟ يعتقد الوزير أوغلو بأن قيمة أي دولة في العالم إنما تنبع من موقعها الجيو-إستراتيجي، وعمقها التاريخي. وطبقاً لهذا المبدأ، فإن تركيا بحسب وجهة نظره دولة مركزية من الناحية التاريخية والثقافية (وريثة الإمبراطورية العثمانية)، ومن الناحية الجيو - بوليتيكية بوصفها قلب أفرو آسيا (قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا)، ودولة شرق أوسطية وأوروبية معاً وذات إمكانات بشرية واقتصادية كبيرة، وهذه المركزية تؤهلها للعب دور إقليمي ودولي متميز، وعلى هذا الأساس يجب ألا تكون تركيا بعد اليوم دولة جبهة وصراعات (مع الجيران والغير) ودولة أطراف «frontier» (دولة هامشية على أطراف الغرب والشرق كما قال المؤرخ الأميركي هنتنغتون) ودولة جناح (داخل الحلف الأطلسي) ودولة إلحاق (داخل فلك أوروبا وأميركا) ودولة جسر «bridge» تربط الشرق بالغرب. وضمن هذه النظرية (المنظور) رفضت تركيا التعاون مع أميركا لضرب نظام صدام في العراق، وضمن هذه السياسة الجديدة تقوم تركيا بتنمية العلاقة والتعاون مع سورية والعراق وإيران وأرمينيا... وغيرها. وسواء كانت هذه النظرية صحيحة أم لا، فإنها نظرية غير متوازنة، أحادية الجانب، أكدت فضائل تركيا ومصالحها وأهملت وتجاهلت ما على تركيا من مطالبات وحقوق للآخرين، وكان من الممكن مناقشتها بإسهاب لو كانت نظرية متوازنة ولو كان صاحبها منصفاً، وكان على أوغلو قبل كل شيء أن يدعو تركيا إلى ترتيب البيت الداخلي والتصالح مع نفسها ومع سكانها ومع الجيران وتسوية الخلافات مع الجميع وإعادة الحقوق إلى أصحابها. وأتساءل وأسأل أوغلو: كيف لتركيا أن تصبح دولة مركزية قوية إذا كانت تنكر وجود عشرين مليون كردي من مواطنيها كما تنكر عليهم حقوقهم القومية والوطنية وتحرق قراهم وتقتل أبناءهم وتحرمهم من أبسط الحقوق التي وفرتها لهم الشرعية الدولية وتصرف سنوياً 15 بليون دولار في حربها ضد الشعب الكردي؟ وكيف لها أن تصبح صديقة وجارة للشعب السوري إذا كانت تحتل لواءي اسكندرون وكيليكيا، العزيزين من سورية وتشرد سكانهما منذ 70 عاماً ولا تعترف بالحقوق السورية المشروعة في مياه دجلة والفرات وفق القانون الدولي؟ وكيف لها أن ترمم جراح الشعب الأرمني والسرياني والآشوري وهي ما زالت تنكر المجازر بحق مليون ونصف مليون أرمني ونصف مليون سرياني وآشوري؟ وكيف لها أن تكفّر عن ذنبها بحق الشعب الفلسطيني وهي أول دولة اعترفت بإسرائيل؟ وكيف لها أن تحصل على ثقة الشعب العراقي وهي تعلن مطالبتها المستمرة بالموصل وكردستان العراق؟ وكيف لها أن تطمئن الشعب الإيراني وهي عضو متقدم في حلف الناتو وخنجر في خاصرة إيران؟ وكيف لها أن ترضي الشعب القبرصي وهي تحتل جزءاً من أراضي قبرص منذ عام1970؟ أعتقد بأن أوغلو عثماني جديد يحاول إعادة أمجاد تركيا الضائعة وإيصال الدور التركي إلى أي مكان يتواجد فيه الأتراك (حالياً أو مروا فيه أو حكموه في الماضي) وهو لا ينكر ذلك. واللغة المخملية التي يتحدث بها أوغلو تعكس كثيراً من الذكاء والدهاء.