في زمن مضى كانت تتم تصفية الخيول التي تسقط أثناء السباق، بإطلاق النار عليها قبل أن تنهض من مكان سقوطها، ويقوم بهذا الدور قناصون متعهدون يراقبون بدقة أحداث السباق من جميع الزوايا والاتجاهات، وعلى مشهد من العاشقين لفروسية الرياضة الأصيلة. اختلف المفسرون والباحثون عن الأسباب، منهم من رآه جزاءً من جنس العمل، وآخرون يرون في هذه العقوبة حساباً وجزاءً فورياً اقتضته المصلحة العامة! والقريبون من التخصص في سلوكيات ومشاعر الأحصنة يرون فيه تأديباً «للساقط» الذي خذل الفارس في يوم عرسه الرياضي، ورسالة للأحصنة الأخرى بمصير من يرتكب مثل هذا الخطأ، المصنف بالجريمة التي يعاقب عليها قانون السباق، ويرونه عادلاً ومنصفاً لأنه لم يتم في ظروف غامضة بل على مرأى ومسمع المشجعين والعاشقين. تتعالى الصيحات بعد سماع إطلاق صوت الرصاص، ويلفت الانتباه حدثُُ صَرَف الأَنظَار عن أحداث السباق لمتابعة دماء الضحية وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. تنطلق مكبرات الصوت معلنةً الفائز بالسباق وسط جمود مشاعر المشجعين والعشاق، ويذوب طعم الفوز والانتصار وسط مشاعر التعاطف والرحمة بالحيوان الضحية الذي أُهدر دمه من دون محاسبة أو مهلة للتعرف على أسباب السقوط، بل إن ميدان السباق ذات مرة انفجر غضباً عندما أشاع عاشقُ للحصان الضحية أن الحصان الفائز بالسباق هو المتسبب في اختلال التوازن الذي أصاب الحصان الصريع؟! لم تشفع نداءات وشفاعات الأصوات الخجولة التي بدأت تظهر متفرقة آنذاك بحماية حقوق الحيوان، ولم يلتفت إليها أحد، لأن البعض يراها مشهداً يجلب الإثارة والمتعة، ويُذَكّر أنها أقل دموية وخطورة من مشهد مصارعة الثيران، أو حلبة المصارعة بين «الأوادم»! استمرت الحال من دون دفع المحال، حتى تسربت إلى رياضة الفروسية الأصيلة المغريات المادية من دعاية وإعلان وصولاً إلى منتجات التأمين، وبدأ الصدام بين نصوص الأنظمة الجائرة وطعوم الماديات، وحتى تكون مبررات التعديل مقبولة. دعم المستفيدون الجدد الأصوات الخجولة المنادية بحماية حقوق الحيوان، وأسسوا جمعيات تطالب بإلغاء طقوس إباحة إهدار دم الحيوانات وحماية حقوقها، ونجحت المغريات المادية في تحقيق ما عجز عنه الشرفاء والعقلاء، وتحوّل القناصون المتربصون في كل زاوية من زوايا ميدان السباق المحتمون بأنظمة تجيز اغتيال الأحصنة الساقطة، إلى أطباء ومنقذين ومسعفين ومندوبين من شركات التأمين للحفاظ على سلامة أرواح الأحصنة الساقطة أو المصابة! وبعد أن كان التعسف والاغتيال جاء الاهتمام والدلال، وتبدل الخوف والرعب إلى رعاية وحب، وضاع بين العهدين والنقيضين، فارس العشق الفطري، الرافض لطقوس التصفية، ومكياج رأسمالية الهواية، وتوارى فارس عبق وامتداد التاريخ خلف أرصدة البنكوت التي أفسدت طبائع الأحصنة المتخمة بالأمصال والأطعمة، وبقي خلف الأسوار يتابع سباقات دولية متوشحاً بجلباب السباق المتوارث عن الآباء والأجداد، يسخر من هذا الزمن الرديء الذي رأى فيه نسل خيول صلاح الدين يمتطيها ويمسك بحبال رسنها بحكم العولمة أصحاب العيون الزرقاء المحترفون. خرج فارس العشق القديم ذات مرة من ميدان السباق مشتاقاً لركوب دابة يروي بها عطش عشق هواية فطرية، فاشترى جحشاً بثمن بخس وامتطاه يسابق به الريح في الطرقات والأزقة، وتعثر الجحش وسقط في حفرة مشروع تمديدات صرف صحي فسخر المارة من الفارس وتعالت الضحكات عليه وعلى جحشه، فما كان منه غاضباً إلا أن رفع وصلة من أنابيب الصرف الصحي الموجودة على قارعة الطريق وضرب بها رأس الجحش وأرداه قتيلاً، ما جعل من هذه الحادثة مادةً دسمةً لتغطية إعلامية واسعة. تحرك سفير النيات الحسنة المعني بحقوق الحيوان، وكان فناناً مشهوراً وطالب بمقاضاة قاتل الجحش الذي كان قاسياً ومتعسفاً وظالماً بحق حيوان لا حول له ولا قوة (على حد تعبير السفير)، نظر قاتل الجحش نظرة ازدراء لسعادة السفير وصرخ على طريقة المعارضين العرب بسؤال عن حقوق الأحصنة عندما كانت تُغتال على مشهد من الملأ، ولم يخلصها من هذه الجريمة إلا شركات التأمين والدعاية والإعلان؟! أجابه سفير النيات الحسنة أن ذاك كان ماضياً لا يعنيه، لأنه لم يُتَوّج من الهيئة الحقوقية الدولية باللقب، ويكلف بهذه المهمة إلا بعد تحرير أرقاب الخيول من العقاب! التمس فارس العشق القديم من السفير أن يعتبر تصرفه بقتل الجحش مماثلاً لنظرية وأسباب تصفية الخيول الساقطة، وأن يتحرك من موقعه وتأثيره كسفير للنيات الحسنة تجاه الحيوان ويحاول جلب المغريات المادية ومنتجات التأمين لحماية الجحوش وحقوقها وإدراجها ضمن الحيوانات المتمتعة بالرعاية والدلال، ويُنظم لها سباقات محلية ودولية أسوة بالأحصنة، تبسم السفير من سؤال العاشق الولهان وسحبه من يده وهمس في أذنه قائلاً: «أيها الفارس القديم والصعلوك الحالي، ربما كانت فرصتك في ممارسة هوايتك المفضلة في عهد تصفية الأحصنة أكبر منها في زمن حمايتها، ونسيت أن العاطفة والعشق الرأسمالي هو أملك وأمل الجحوش المضطهدة في التحول، المهم ألا تنسى أن التغيير إذا حدث سيُلقيك خارج دائرة المنافسة، وربما ينقذك في المرحلة الأولى ما يعانيه العالم من شح في توفر فرسان وخبراء عسف الجحوش؟!». قَبّل الصعلوك رأس سعادة السفير وهمس في أذنه قائلاً: «أنت ديبلوماسي جحشي في عباءة رأسمالية!»... وتفرق الجَمع! [email protected]