واظب السلاطين العثمانيون على إحياء تقليد سنوي بعد اليوم الخامس عشر من شهر رمضان بدأ مع فتح القسطنطينية واستمر حتى الحرب العالمية الأولى، ويقضي بتقديم أجود أنواع العطور في قصر طوبقابي للزوّار. واقتصرت أشهر العطور تاريخياً على أنواع حافظت على مكانتها مئات السنين واستخدمت بكثرة في المناسبات الدينية، وأبرزها العنبر والمسك واللبان والعود والزعفران والعطر الفريد المستخلص من ورود منطقة الطائف في الحجاز والذي ما زال يحمل اسم «عطر الورد العثماني» في الأسواق الغربية حتى اليوم. يستعرض معرض «العطر والمدينة» المقام في مركز جامعة كوج للدراسات في إسطنبول، ما يقارب 50 نوعاً من العطور التي عاصرت الأمبراطوريات التي شهدتها الأناضول منذ أربعة آلاف عام، الحثية والإغريقية والرومانية والبيزنطية والعثمانية. والمعرض يعد الثاني الذي ينظمه «مركز جامعة كوج للدراسات حول حضارات الأناضول»، والأول كان العام الماضي بعنوان «الأصوات اليومية». لجأ منظمو المعرض إلى أسلوب تفاعلي مع الجمهور، فبإمكان الزائر مشاهدة بعض مقاطع الفيديو التي أعدّها خبراء ومختصون في العطور، وتستعرض الفيديوات صلة الروائح وتأثيرها في الذاكرة والعاطفة، وطرق التمييز بين الروائح. ولا أساس علمياً لتصنيف روائح العطور إلى سيئة وجيدة، وتفضيل إحداها على أخرى، بل يرتبط الأمر بخبرة اجتماعية للفرد تنتقل عبر العائلة والمنزل والبيئة - هكذا تفضل بعض الثقافات تاريخياً أنواعاً محددة من العطور، قد لا تلقى درجة الإعجاب ذاتها في مجتمعات أخرى، وهو ما يتحول أحياناً إلى أداة تمييز عبر وصم شعوب برائحة محددة تقليلاً من شأنهم. بين تشكيلة واسعة من العطور المعروضة، فإن الزائر يستطيع اختيار العطور التي يفضلها بحيث أدرج اسم العطر إلى جانب كل نوع منها، ومعظمها تتسم بطابع تاريخي، كونها مستخلصة من نباتات وحيوانات اختبرتها البشرية عبر آلاف السنين، مثل المسك والعنبر والبخور والآس وورق الغار وأزهار يهوذا وإكليل الجبل وحتى القهوة التركية. وتقول لورين دافيس، مديرة المعرض والأستاذة المساعدة في جامعة كوج، إن معظم الزوار لا يتمكنون من التمييز سوى بين ثلاثة إلى أربعة أنواع من الروائح من قائمة اختبارية تضم 12 نوعاً. وترى دافيس أن هناك فرقاً كبيراً في فهم الناس للعطور بين العصور السابقة ووقتنا الحالي نتيجة التصنيع والتحديث. على سبيل المثال فإن المقاربة النمطية الحالية تعتبر أن المكان النظيف والأنيق هو المكان الذي يخلو من أي رائحة سوى رائحة المنظفات. لم تكن العطور المسجلة باسم العثمانيين تنتج في بلاد الأناضول سوى بضعة أنواع مألوفة، فأجودها كانت تستخلص من نباتات المقاطعات العثمانية البعيدة ومن إفريقيا والهند. وأقدم خطوط تجارة العطور تلك التي كانت قائمة بين الهند والعراق. ويروى أن أحد أمراء البرامكة عاد من الهند ودخل على الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فأعجب الأخير برائحته من العود المندلي حين مثل بين يديه، وأمر باستيراده من الهند. وفي مفارقة حضارية، تزامن انتشار العطور في أوروبا مع نهاية الحروب الصليبية تأثراً بما وجده الصليبيون في الشرق، وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت أوروبا تصدّر العطور إلى الدولة العثمانية، ومن أبرزها الكولونيا التي حضرت في المعرض، مع الإشارة إلى أنها كانت جزءا أساسياً في خزانة عطور السلطان عبد الحميد الثاني. وتتطلّع مديرة المعرض إلى توسيع فكرتها بأن تنظم معرضاً عن روائح إسطنبول كمكان، وتعتقد بأن هذا سيتطلب مزجاً بين روائح عديدة، منها مضيق البوسفور والمعجّنات والأسماك وأشجار الزيزفون والقهوة والشاي والمارّة في الشوارع وساحة تقسيم والأحصنة التي تجرّ العربات.