لا أظن الرئيس الفرنسي يؤكّد في المناسبات الوطنية أن باريس للفرنسيين. كما أن رئيس حكومة النروج لا يعلن في مناسبات وطنية أن النروج هي ملك للذين يعيشون على أرضها. هذا في حين أنه عندما احتفت إسرائيل الرسمية بما تسميه «يوم توحيد القدس» أعلن رئيس الحكومة ومن ورائه وزراؤه: «إن هذه المدينة لنا». وعندما احتفلت ب «عيد الاستقلال»، أعلن رئيس الحكومة والمسؤولون: «هذه الأرض لنا»! وهذا يدلّ على الفارق بين وضعية إسرائيل وبين وضعية دول أخرى. فما يقوله الإسرائيليون في مناسباتهم يعكس في العادة «روح الجماعة» و «وضعيتها» وموقعها كجماعة سياسية سيادية وصورتها في عيون ذاتها. ما يقوله الإسرائيليون، على رغم مرور 62 سنة على قيام الدولة العبرية، يشي بالضالة المنشودة للمجتمع اليهودي فيها. وهي أبعد من الوجود ومن الأمن ومن الرفاه والنموّ الاقتصادي. فقد حقق المجتمع اليهودي في إسرائيل قدراً كبيراً من كل هذا ووفق كل المعايير. ومع هذا، فإن المجتمع الإسرائيلي لا يزال نزقاً وعصبياً ينزلق إلى العنف لأقلّ تهديد أو ما يُفهم على أنه تهديد كما رأينا في واقعة اعتراض سفن التضامن مع غزة وأهلها. وجذور ذلك كامنة في شعوره بأنه لا يزال يفتقد الشرعية التامة في الحيز الشرق أوسطي. وقد كان هذا المكوّن حاضراً في بلورة السياسات والتوجهات الإسرائيلية الداخلية والخارجية. وأعتقد أنه عاد ليبرز بقوة في الأداء الإسرائيلي بسبب تضعضع مكانة الدولة العبرية وسط المتغيرات الكونية لا سيما تعدد الأقطاب وتعديل السياسات الأميركية والأهم، انحسار قوة الردع الإسرائيلية. هذه التطورات أدخلت النُخب الإسرائيلية في العقدين الأخيرين في عصبية ظاهرة لأنها حصلت من دون أن ينفتح أفق التسوية أو المصالحة مع العرب. وهذا يعني بالنسبة للنُخب الإسرائيلية المراوحة في مكان غير مريح. فمن ناحية تطورات كونية أضعفت بالتراكم موقع إسرائيل في خريطة القوى والمصالح لا سيما الأميركية، ومن ناحية ثانية تفقد ببطء ولكن بثبات قوة ردعها. وهي تغيرات هائلة بالمقاييس الإسرائيلية تُفهم لدى النُخب على أنها تهديد وجودي ومصدر قلق داهم. وهو ما دفع هذه النُخب حتى الآن إلى خطاب مزدوج قوامه السعي إلى استعادة قوة الردع بإعادة بناء الجيش وقدراته في كل مجال ممكن والتخبّط بمقترحات التسوية مع الفلسطينيين وصولاً إلى الإقرار بوجوب إقامة دولة فلسطينية وقبول المبادرة العربية للسلام من حيث المبدأ. وأعتقد أن هذه النُخب جادة في هذا وذاك، وإن بدت نزعتاها متناقضتين. ففي الحالين تتطلع هذه النُخب إلى الحصول على الشرعية التامة من العالم ومن المحيط العربي بوجه خاص. مرة، بإعادة بناء مكوّن الردع العسكري وفائض القوة، ومرة بالحديث عن تفاصيل التسوية المرغوبة والممكنة من ناحيتها. أما حال الشرعية في نظر النُخب الإسرائيلية في الراهن بعد الحرب على غزة وتقرير غولدستون فهو إشكالي في المستويين العالمي والعربي. فسياسات إسرائيل تجاه غزة والفلسطينيين عموماً حرّكت بفعل العنف المدمر مرتكزات الشرعية الدولية التي تململت تحت تأثير منظمات المجتمع المدني وأوساط أكاديمية وشعبية ضغطت على حكوماتها في أوروبا أكثر من غيرها باتجاه التأشير بأن هذه المجتمعات والحكومات ترفض الاحتلال ونتائجه ومستعدة للذهاب في ذلك حدّ المقاطعة لأكاديميات إسرائيلية أو بضائع تنتجها المستوطنات الاحتلالية أو إسرائيل نفسها. وأنتج هذا الحراك المتنامي قلقاً إسرائيلياً من التحول إلى نظام أبرتهايد بامتياز. وهو ما ينتقص من الشرعية الدولية المضمونة منذ التصويت على قرار التقسيم في عام 1947. هذا في حين أن المكاسب التي حققتها إسرائيل في باب الشرعية على الخط العربي معاهدتا سلام مع مصر والأردن وعلاقات ديبلوماسية معلنة أو غير معلنة مع عدد من الدول العربية ومبادرة عربية للسلام في أساسها الإقرار بوجود إسرائيل واحتياجاتها الأمنية بدت في السنوات الأخيرة متحركة على رمال الشرق الأوسط الذي بدا يميد تحت أقدام مشروع إيراني وآخر تركي شكّلا تحدياً للأنظمة العربية كافة. ولأن إسرائيل لم تأتِ بأي فعل جدي يحقق الانفراج في المنطقة. كان من الطبيعي أن يتشدد المحيط العربي في منحه الشرعية لإسرائيل كدولة ووجود. وقد لمست إسرائيل ذلك مرتين متتاليتين في سنتين من خلال ملابسات الحرب على لبنان ثم على قطاع غزة ومن قبل عند اجتياح الضفة الغربية. كل هذا زاد من العصبية لدى النُخب في إسرائيل وأقعدها. فلا هي قادرة على كسب الشرعية بالردع المتناقص ولا هي قادرة على كسبه بفعل سلامي حقيقي لا تزال مترددة فيه. هذا فيما حراك المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والسياسية في العالم آخذ بالتسارع. في هذه الحال يصير مفهوم السيادة هو الوجه الآخر للشرعية المفقودة أو المشروطة. ويصير التشديد عليها ضرباً من الهستيريا الرسمية والشعبية كما تجلى ذلك فيما يُفهم في إسرائيل على أنه محاولة للمسّ بالسيادة السفن المبحرة إلى غزة على رغم الحصار البحري. وما زاد من هذه العصبية الإدراك الإسرائيلي المتزايد أن العالم، اليوم، أكثر استعداداً لتفهم خطوات المقاطعة على أشكالها مع غياب عنف فلسطيني أو عربي موجّه ضد إسرائيل وانتقال المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي من المنظمات السياسية ومن أفعال «المقاومة» إلى منظمات المجتمع المدني لا سيما منظمات الإغاثة الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان. وهذا بالتحديد ما يصعّب على مجتمعات ودول في العالم الهروب من إعادة النظر في الشرعية الممنوحة لإسرائيل. ومن هنا هذه الإشارات الكثيرة نسبياً في الفترة الأخيرة التي أرسلت للإسرائيليين ومفادها أن الشرعية الدولية لم تعد أوتوماتيكية بل مشروطة. وهذا بالتحديد ضيّق مساحة المناورة الإسرائيلية بمدى ملحوظ مع انتقال الفعل إلى ميدان جديد غير عسكري ولا مقاوم بالمعنى الكلاسيكي هو ميدان الشرعية الدولية ومفاهيم حقوق الإنسان ولغة العالم المتنور. لن تستطيع النخب في إسرائيل أن تعيش لفترة طويلة مع شرعية دولية مشروطة أو منتقدة لأنها القاعدة السياسية السيادية التي تستند إليها إسرائيل منذ قامت، وتواجه بها الشرعية المشروطة أو الغائبة من العرب في المحيط. لكنني أستبعد أن تختار هذه النُخب في هذه المرحلة تأسيس «الردع» على تحصيل الشرعية التامة من العرب ومن العالم بالنزوع نحو فعل مصالحة حقيقي مع الواقع الجديد ومع العرب، وإن فكرت جدياً بالموضوع. بل أرجح أن يظلّ رهانها لفترة أخرى على تكريس الردع بالقوة العسكرية وتوكيد السيادة. وهي سيادة تحصّلت للشعب اليهودي وفق مروياته هو بعد نحو ألفي سنة من الشتات، الأمر الذي لا يُمكن المساومة عليه أو تعريضه لخطر. والمفارقة في التجربة الإسرائيلية هي أن كل فعل سلامي أو تفاوضي يُفهم على أنه تهديد لهذه السيادة. ومن هنا حاجة الإسرائيليين، نُخباً وشعباً، إلى مَن يكسر هذه الدورة المغلقة. وحتى حصول ذلك ستظلّ النُخب الإسرائيلية مرتبكة ومحرجة وعصبية غير قادرة على تصريف المعضلات أو الجاري من الأمور وسريعة الانقياد إلى مغامرات جديدة لا سيما في الميدان الذي تعتقد أنها تتمتع فيه بالتفوق!